(جولدا )..و حرب أكتوبر


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7754 - 2023 / 10 / 4 - 07:39
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

أرسل لي صديق الفيس بوك الدكتور عهدى غبريال .. نسخة عليها ترجمة عربية من فيلم ( جولدا ) ..أكرر شكرى له ..
الفيلم رغم اننا لم نر فيه رصاصة واحدة أو دبابة .. أو معارك أو حتي صراعات باليد .. إلا أنه فيلم حرب من الدرجة الأولي يصف ما حدث في أكتوبر طبقا لوجهة النظر الإسرائيلية بمناسبة مرور نصف قرن علي الأحداث .
قبل أن أبدأ مناقشة الفيلم أود أن أوضح كون اليهود هم الاساتذة الأوائل لهذا الفن (السينما ). سواء في هوليوود أو في أوروبا أو حتي مصر ..
و أنهم أتقنوا توصيل أفكارهم للمشاهد دون زعيق أو حتي التطرق لصلب الموضوع في بعض الأحيان .. لذلك ففي هذا الفيلم لم نر الشجاعة و الذكاء و البطولة .ورامبو صانع المعجزات .الذى نراه في الافلام التي تنتجها إدارة التوجيه المعنوى في مصر..
بل أظهر القادة الإسرائيليون ناس عاديين .. حزاني ، خائفين ، مترددين ..بعد أن تقدمت القوات السورية في الجولان و قضت علي قواتهم هناك و هددت بلادهم و وجودهم لدرجة أن البعض فكر في إستخدام أسلحة نووية لضرب القوات بالهضبة المطلة علي بلادهم فزجرته رئيسة الوزراء .
ثم كيف تماسكوا بجسارة وهم يقودون المعركة (التي خسروا إفتتاحها) لتنتهي بهم لإعادة إحتلال الجولان وأن تهدد رئيسة الوزراء .. وزير خارجية أمريكا بأنها ستتسبب في تكوين جيش أرامل و أيتام ..من زوجات و أبناء جنود الجيش الثالث المحاصر في الضفة الشرقية .. دون مياة ..و إمدادات . . و أنها غير مهتمة بتحركات السوفيت الذين جهزوا 11 فرقة للتدخل في المنطقة .
الفيلم دون أن يتكلم مباشرة .. أو يقارن بين المجتمعات الشمولية في سوريا ومصر و المجتمع الديموقراطي الإسرائيلي .. أظهر لنا كيف يتمتع الإسرائيليون بالشفافية وسلاسة إتخاذ القرار بواسطة ضباط.. تغلب عليهم البساطة و الفهم.. يحترمون رئيستهم دون تقديس .. و يوظفون إمكانياتهم بصورة إيجابية .
لنقارنهم بالأخرين الذين يتبعون دون تفكير أوامر ديكتاتور.. قد تكون صحيحة في بعض الأحيان ..مثل بدء القتال.. و العبور .. و قد تكون كارثية بالدفع بقوات من الفرقتين المدرعتين الرابعة و الواحد و عشرين التي تحمي القاهرة رغم معارضة القادة و رئيس الأركان .. لعبور القناة تحت مراقبة طيران العدو الذى يضع قواته في إنتظارها بكمائنة بعيدا عن حائط الصواريخ ..
و الفيلم بذكاء لا يوضح المسكوت عنه أن هناك فارق كبير .. بين المجتمعين المتصارعين .. يتركك لتقارن.. بين تواضع رئيسة الوزراء الإسرائيلية و هي تتحرك و معها شخص واحد لا غير ..تنظر إلي توابيت الموتي المرصوصة علي ارضية المطار .. بحزن و حسرة ... أو السيدة البسيطة التي تجلس في حوض مياة تساعدها سكرتيرتها أثناء إستحمامها لضعفها و عجزها .
و بين ملابس السادات المارشالية المزركشة ومشية الأوزة النازية أمام نصب الجندى المجهول( goosestep march like a Nazi..) وموكب نصره و هو يتحرك ليصل إلي مقر مجلس الشعب ليوزع الأوسمة و النياشين علي ضباط الجيش بشكل مسرحي دعائي قبل الهنا بسنة ..
و الفيلم دون فخر أو مباهاه بقدرتهم علي تجنيد الكبار .. يلمس موضوع ( الكيماوى ) اللي بلغهم بموعد الحرب .. و لكن لشكهم في أن يكون جاسوس مزدوج .. لم يهتموا بتحذيراته .. و تسببوا بذلك في خسائر فادحة لقواتهم تندم عليها بوضوح رئيسة الوزراء أمام لجنة تحقيق مشكلة لمعرفة أسباب تراجع أداء القوات في بداية المعارك
ترى هل ندم القادة المصريون علي ال500 دبابة التي فقدناها في غمضة عين بسبب أوامر قاصرة أم أننا لا نحاسب المخطيء و لا بيحاسب نفسه ... و لا نرى ألا الجزء الضئيل من الماء في قعر الكوب شبه الفارغ .
فيلم جولدا تتبع مجريات الحرب يوما بيوم.. من قبل أن تبدأ حتي ذهاب السادات للقدس يتبادل النكات مع رئيسة الوزراء العجوز .
رصد معرفة المخابرات بأن الوضع يتغير علي الجبهتين .. و أن هناك حشود علي القناة .. و فك التخزين للاسلحة السورية .. بالإضافة إلي تحذيرات أشرف مروان لهم .. و لكن القادة خصوصا موسي ديان لم تأخذ الأمر بجدية فقد تكرر قبل ذلك عدة مرات دون أن يحدث شيئا ..و لم تهتم أن مصر للطيران نقلت مقرها لليبيا .
لذلك حقق السوريون فوزا سريعا في هضبة الجولان .. وعبر المصريون للقناة .. و صدوا الهجوم المضاد التكتيكي و التعبوى للمدرعات بواسطة أسلحة يدوية ..و تمسكوا بالأرض .
ثم يتابع الفيلم .. تغير الموقف .. وإسترداد الجولان .. و وصول القوات الإسرائيلية لمشارف دمشق .. ثم تفرغها لمعارك الجنوب .. و يحكي عن معركة المزرعة الصينية .. ثم عبور قوات شارون من خلال ثغرة غير محمية بين الجيشين الثاني و الثالث إكتشفتها الأقمار الصناعية ..و لا يشرح لنا كيف أقام في 48 ساعة الجسر الخرساني الذى عبرت عليه فرقه للضفة الغربية ..
ثم محاصرة الجيش الثالث ومدن القناة و لا يذكر مقاومة أهل السويس للغزو ..ثم تصوير رئيسة الوزراء في إفريقيا بين حماس جنودها .. أمور تتم بسلاسة غريبة دون شروح تفصيلية .. لتشعر أنك أمام صناع معجزات .
خلال المعارك نشاهد تطورات الحرب الدبلوماسية .. و دور هنرى كيسينجر بين المتحاربين و زيارته لإسرائيل و توفيره إمدادات لإسرائيل بالطائرات و الدبابات لتعويض الخسارة الجسيمة التي تكبدتها في بداية القتال
( نكته قالتها جولدا لكسينجر ذات دلالات ) فعندما قال لها تذكرى أنني أمريكي و وزير خارجية أمريكا و يهودى .. ضحكت و قالت لكن لا تنسي أننا في منطقتنا نقرأ من اليمن للشمال بمعني ( يهودى ، وزير خارجية ، أمريكي )
السيدة العجوز المريضة المدخنة بشراهه.. المتهالكة إستطاعت أن تقود المعركة .. و تتحمل الخسائر .. ثم تنتصر .. و تملي إرادتها .. دون أن يكون لها دراية بالحرب .. لسبب وحيد أنها كانت تمارس بعفوية قواعد الديموقراطية وتستمع لمعاونيها من الضباط و السياسين ثم تعطيهم الفرصة أن يبدعوا في ميدان القتال .. لقد قالتها بوضوح أنا سياسية إيه اللي فهمني في شغل الضباط
مشاهد الفيلم سيتعاطف مع هؤلاء الناس الذين تم تدمير قواتهم في الأيام الاولي للحرب و تكبيدهم خسائر فظيعة في الأرواح .. و تهديد وجودهم نفسه .. ثم سيعجب بإسلوبهم في إدارة المعركة .. وكيف حولوا الهزيمة لنصر يصل بقواتهم إلي مشارف دمشق و القاهره ..
ثم سيقدر لهم أنهم لم يبيدوا قوات الجيش الثالث المحاصر .. و أنهم عندما قرر السادات أن يسلك طريق السلم رحبوا به ....و تفاوضوا معه .. و تركوا له الأرض .
هذه هي طريقة إسرائيل في الإقناع .. نحن شعب مضطهد قاسي من ظلم جميع شعوب العالم .. و لا يوجد مقر لنا إلا هذه الأرض المقدسة .. و أن المتوحشين يحيطوننا و يريدون تدمير الديموقراطية الوحيدة في المنطقة ..
ثم يظهرون من خلال الدراما كيف تمتلك رئيسة الوزراء كل الخصال الحميدة .. الطيبة و الإنسانية و التعاطف مع الأخرين خصوصا مع سكرتيرة فقدت إبنها في المعركة .. و المحبة و الذكاء و الصبر ..و كيف يحيطها العاملون بنفس الدرجة من الود فتساعدها سكرتيرتها في الإستحمام و تجهز لها أخرى طعامها البسيط .. شوربة روسي ..و يتعاطفون مع الامها و مرضها في المستشفي .. و يحترمها الجميع بما في ذلك جنودها .
فيلم جيد لمن لا يعرف شيء عن حرب يوم الغفران ..يجعله يقارن بشكل دائم .. بين المجتمعين .. و درجة ذكاء القيادتين ..
و هو يبدو للوهلة الأولي أنه متوازن في الرواية ..وقد يقنع المشاهد بدون هتاف وإنفعال بأن النتيجة النهائية للمعارك .. هو نصر إسرائيلي بسبب كفاءة قادتها و علي رأسهم عجوز أوكرانية مريضة ضعيفة .. متعاطفه مع قتلاهم .. و في نفس الوقت قويه و ذكية ودمها خفيف .