صعود و سقوط الطبقة الوسطي


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7812 - 2023 / 12 / 1 - 10:29
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

كتب هيرودوت ((كان بمصر طبقين الفرق بينهما واسع)) .. إستمر واقعنا هذا لألفين سنة وأكثر .
طبقة غنية متيسرة متنعمة متحكمة .. سواء كانوا بطالسة أو رومان أو عرب أو مماليك أو أتراك أو مستبدين .. و أخرى شديدة الفقر و العوز و التخلف .. تجاهد كي لا تبيع أطفالها في سوق النخاسة .
فلسوء الحظ لم نمر بالمرحلة الإقطاعية بالمفهوم الأوروبي .
بمعني لورد مالك للأرض (تتوارثها أجيال متتالية من الأسرة ),,يعيش بها يتحكم في كل ما يتحرك داخل ممتلكاته و مسئول عن إعاشه و حماية و كفالة الأقنان الذين يعملون في الزراعة أو الرعي أو الحرف اليدوية مع الحرص علي إستمرارهم ينتجون ..
في تحالف مع رجال الدين الذين يطوعون عقل و روح السكان ليرضوا بالضيم .. وما يصاحب هذا من سيادة مجموعة قيم و سلوك ييحرصون عليها جيل بعد جيل ..و أساليب حياة نابعة من علاقات مستقرة .. وإلتزامات واضحة من الإقطاعي تجاة (الحاكم) و باقي أفراد الرعية .
و لم نمر أيضا بمرحلة الرأسمالية الصناعية و تطوراتها ..
بكل ما حملت من تعديلات في بنية المجتمع..و تغيير لوسائل الإنتاج الأساسية ..مع تحرير الأقنان.. وتدريبهم و تعليمهم و تشغيلهم في المصانع و الورش ليصبحوا عمالا .. و ضمان سيادة قدر مناسب من الحريات يكفل للجميع بدساتير عادلة .. و قوانين يلتزم بها أرباب العمل وأصحاب المصانع وعمالهم
والذين حصلوا بسببها علي مكاسب مهنية بعد طرق أساليب مختلفة للكفاح جعلتهم مستقرين أمنين علي حقوقهم .. معتمدين علي نقابات خاصة بهم تدافع عنهم .. و ترقب تطبيق ساعات العمل المتفق عليها .. والحصول على أجر عادل وعطلة أسبوعية وإجازة سنوية و رعاية في حالة المرض أو البطالة .
ولم نشهد هذا المجتمع الجامح الذى يشجع الإبتكار و الإكتشافات الجغرافية ..
و السعي خلف المواد الخام و تأمين الأسواق .. و ينافس عن طريق تطوير المنتج و تحسينة .. و تعديل مناهج و إسلوب الحياة بما يدفع للنمو و الترقي المستمر .
كان يحكمنا دائما نظم تصنف علي اساس أنها (طغيان شرقي) ..
ابناء جماعات متغيرة من المستغلين والمحتلين ..يسقط بعضها بعضا .. بالعنف أو التأمر ..ويحل محله قسرا ..
يحكموننا مستخدمين الإرهاب لإخضاع أفراد المجتمع ..و إبتزازهم ..و إستنزافهم .. دون أى محاولة لتطوير حياتهم أو تحسينها ..ما دامت الأمور تسير في طريق تحقيق مصالحهم والإبقاء علي نفوذهم و شذوذهم و قصورهم أمنة
في بلدنا كان هناك دائما حاكم فرد ديكتاتور( سواء كان أجنبيا محتلا أو من أبناءها ) .. يحيط به شلة من المنتفعين .. أكيلة العيش الذين يؤدون أعمالا داعمة لسطوته خصوصا ما يتصل بالنهب والجباية ..أو القتل و التعذيب و السجن للأخرين أو تسكين الشعب بطقوس ينشروا بها الخرافات و الأساطير
لقد كان حكامنا بصورة مستمرة ..غير منتمين للبلد أو لأهلها .. حتي لو ولدوا وعاشوا فيها .. فهم إما أسر حاكمة أجنبية ( البطلمية و الطولونية و الإخشيدية و الفاطمية و أسرة محمد علي ) تتوارث العرش بما في ذلك تمليك الأطفال و الشواذ و المعاتيه
أو (والي) مفوض من قبل المستعمرين ( الرومان و العرب و الأتراك و الإنجليز ) يبقي لفترات صغيرة و يستبدل ..
أوأحد أفراد إنكشارية مملوكية من المرتزقة .. و اللصوص .. والفتوات..يستولون علي الحكم قسرا و يتبادلون بالعنف وظائف كباررجال الدولة و جباة الضرائب .. و أمراء العسكر..ويفرضون إرادتهم بالقوة المسلحة .. و السجون و التعذيب .. مع التربح من الوظيفة .. و إهمال تطوير من يحكمون ..
الطبقة العليا المصرية لالفين سنة كانت دائما ما تتمثل فى الحاكم ( أو الوالي أو مندوب الإحتلال أو قادة جماعات المماليك و العسكر) واسرهم وحاشيتهم ..
في نفس الوقت كان لدينا طبقة واسعه من الكادحين المحليين لم يتغيرحالها و بؤسها علي مر الزمن .. عمال زراعيين و حرفيين و صنايعية وصيادين و مراكبية.. و خدم .. و عبيد
هذة الطبقة الكادحة تفاوتت لديهم درجات الفاقة و البؤس..فلقد ترتبت في شرائح هامشية ضعيفة .. فقيرة متتالية حتي تصل إلي مستوى المعدمين.. تضم كل من له دخل شبه دائم ( حتي لو كان لا يكفي ) و يستطيع أن يجدعشاء يومه ..
صغار الموظفين ( الجباة و الإداريين و المساحين و القياسين و الكتبة ) و ملاك الأرض الزراعية في حدود خمسة افدنة .. و الفنانين و الصناع و التجار ..و المشايخ و بعض المرتزقه من الجنود.. ومعلمي الحرف و الصناعات ( ورق ،زجاج ،مراكب، أقمشة ، أثاث، زيوت و سكرو صابون ) ..الذين قد نطلق عليهم تجاوزا الشريحة العليا من الطبقة الكادحة
كان يليهم قاع واسع رهيب من شبه الأقنان..و العبيد .. وعمال الزراعة وصغار الحرفيين ..والصيادين ..والملاحين ..والرعاة .. والخدم و الأتباع .يعيشون علي الكفاف .
هذه التقسيمة الطبقية الشاذة ..التي فيها الأغلبية تشقي .. لإنتاج أسباب رفاهية عصبة حاكمة .. لم تتغير إلا قليلا في منتصف القرن التاسع عشر .. عندما كان الخديوى إسماعيل .. يحاول تحديث البلاد .. وتعديل نظام الحكم .. فإستعان بالمتيسر من المتعلمين و المؤهلين في زمن والدة..لأداء بعض الأعمال العصرية ..
عمالة مستحدثة لم تكن من الحكام أو المعدمين .. لتتوسع بذلك الشريحة العليا من الطبقة الكادحة و تصبح طبقة متوسطة
الطبقة البازغة (المتوسطة ) كانت ..تشمل بجانب من تعلموا بالخارج.. أو تملكوا أرضا زراعية في حدود خمسين فدان .. الأجانب المستوطنين و المهاجرين واليهود الذين كانت جماعاتهم منتشرة في مصر (منذ القرن الخامس ق.م ) بكل الارجاء و لهم دور ملموس في الحياة الإجتماعية و الإقتصادية ..خصوصا في أعمال تجارة الجملة و القطاعي .
مع التغييرات العالمية و إنفتاح أبناء محمد علي علي أوروبا يمنتصف وقرب نهاية القرن التاسع عشر..توسعت الطبقة الوسطي وإزداد نفوذها و قوتها وإرتفع سقف أمانيها و مطالبها ..و برزت بين الطبقتين الأساسيتين من الأغنياء المترفين .. و الفقراء المعدمين .
في بدايات القرن العشرين ..بسبب عصرنة وتطويرأساليب الإدارة الحكومية... حدثت تغيرات راديكالية غيرت شكل المجتمع و صاحبها نهضة إدارية و فكرية و سياسية مكنت الطبقة الوسطي من السيطرة علي الجهاز الإدارى و التعليمي و الثقافي و الحقوقي .
لقد حدث الأمر ببساطة .. فمع الحربين العالميتين وبينهما نتيجة لرغبة الإنجليز في تقديم الخدمات الضرورية لجنودهم في المنطقة .. سمحت بالتوسع في التعليم الاولي و لم تمانع في إنشاء اول جامعة غير دينية و أول كلية فنون جميلة..و مدارس للفتايات ..
و شجعت الطبقة الوسطي علي أن تنمو ويتعاظم تأثيرها في المجتمع فكان منها.. الموظفين و التجار وأرباب الصناعة و البنكرز و العسكريين و السياسيين و المفكرين و العلماء و الفنانين. .. مما ممهد لتوليها الحكم كأمر حتمي و طبيعي بصفتها أصبحت الأكثر وعيا و خبرة.
بعد صدورالدستور في 19 إبريل1923 بضغط من الإنجليز علي الملك فؤاد .. وإجراء أول إنتخابات برلمانية حقيقية .. فاز فيها حزب الوفد وشكل أول وزارة دستورية برئاسة ( القاضي ) سعد زغلول في 12 يناير 1924 .. أنحصر تشكيل وزارات مصر التالية ..في أبناء هذه الطبقة .. فقدمت أربعة أو خمسة نماذج للحكم تتناسب مع فكرها و ثقافتها و تعليمها و تجربتها
النموذج الأول : الحكم الملكي الدستورى الليبرالي المشابه لما كان يحدث في أوروبا الغربية و منسوخ عنه.... (حزب الوفد )
النموذج الثاني :الدولة التوتالية المركزية القومية المشابهه لخلطه من النازية والستالينية مع الطغيان الشرقي ( الإتحاد الإشتراكي الناصرى )
النموذج الثالث : الدولة..المنفتحة علي السوق العالمي و ليس لديها شيء تقدمه له.. فتصبح تابعة.. منبطحة تسيرها الكارتيلات العالمية ( الحزب الوطني الساداتي و المباركي )
النموذج الرابع : الدولة المسحوقة الهوية داخل الخلافة الإسلامية المرتقبة .. تقودها عناصرمن التيارات الإسلامية الراديكالية تقترب من الشكل الإيراني الذى فيه الحكم للفقية.. (الحرية والعدالة الأخواني )
ثم أخيرا و بعد إنتفاضة 2011يحدث إنقلاب المليارديرات علي الطبقة الوسطي و الجلوس علي كراسي إتخاذ القرار . .. ليأتي النموذج الخامس:
جمهورية من جمهوريات الموز يحكمها ألمليارديرات و المليونيرات المرتبطين بالخارج .. و يتحكم في إقتصادها صندوق الدين ..و مافيا القروض ..و تنفيد مشاريع حكومية مكلفة منعدمة الجدوى مثل العاصمة الإدارية الجديدة .( حزب نكبة وطن الأمني التوجهات )
بمعني أن الطبقة الوسطي بعد أن حكمت مصر منذ صدور دستور1923 و حتي ثورة 2011.. جاءت إقتراباتها للأسف ( عدا مرحلة التطبيق الإشتراكي في الزمن الناصرى جزئيا ) عاجزة عن فهم طبيعة العلاقات في المجتمع المصرى و إحتياجاته للحرية و الديموقراطية و التنمية ... وتقديم العون لحل مشاكله القومية المزمنة.
الطبقة الوسطي عندما حكمت لم تترك مكانها..خصوصا بعد الإنقلابات العسكرية..(إلا للمليارديرات منذ عشر سنوات )
تسير علي النهج القديم من الطغيان الشرقي .. لا تحسن القيادة و لا تقدم حكم رشيد.. و تفاقم في زمنها مشاكل الفوارق الطبقية..و الدينية و الوحدة القومية ..
لقد ترددت .. و تلعثمت .. و خافت علي كراسي الحكم ( من القوى الخارجية أو الداخلية ) فوقفت دائما في المعسكر المضاد لأماني الناس
السبب في ذلك يعود إلي أن العوامل التي شكلت ثقافتها كانت في أغلبها مستعارة من مجتمعات أخرى دون أن تضع في الإعتبار .. تغير البيئات و الزمن .. و الظروف التي أنتجت تللك الرؤى و الفلسفات
بكلمات أخرى .. توهة الطبقة الوسطي و هي علي كراسي الحكم .. تعود إلي سببين
أولهما .. ذاتي ، بمعني أن هذه الطبقة بحكم أصول نشأتها ارتبطت بالاستعمار الاوروبي وضمت العديد من المتمصرين الذين متــَّنوا من قوى هذا الارتباط فجاءت طبقة عقيمة غير قادرة علي الابتكار ومراكمة الخبرة (كما حدث في اليابان والهند والصين ) بل حرصت علي التقليد والنقل حتي لو من نماذج أقل تحضرا .
والسبب الثاني ..خارجي فالتغيرات التي شهدها العالم من حولها كانت جذرية وعميقة وكان من الصعب علي طبقة هشة مثلها حديثة التكوين لاتعتمد علي بنية إقتصادية داعمة.. بل علي السلطة التي يمنحها لها كرسي الوظيفة.. الفكاك من هذه التغيرات فدارت في فلكها . .. عندما إنتهت الحرب العالمية الثانية كانت هناك أربعة تيارات ثقافية رئيسية تحكم فكر وتوجهات الطبقة الوسطي المصرية.. كلها مستوردة من الخارج .
فالافكار القومية التي روج لها هتلر و موسيليني عن القومية الإشتراكية ..رغم هزيمتها في الحرب إلا أنها أينعت وسط شباب المصريين الذين أثرت عليهم الأفكارالقومية في إتجاهين .
أحدهما ولع بتاريخ كميت (مصر) الذى تعرفوا عليه حديثا بعد أن فك الغرب طلاسم اللغة القديمة ..و تحدثوا عن تفرد الكمتيين كجنس متفوق قدم للعالم أصل الحضارة و بني الأهرامات و المعابد الضخمة بأدوات بسيطة أولية ..عندما كان الأوربيون لازالوا يسكنون أعشاشا فوق الشجر .
و الأخر أصحاب ((وحدة، حرية، اشتراكية)) .. نقلا عن مثقفي الشام الذين عانوا من الاستعمار وسحق الهوية العثماني فإخترعوا في مقابلها (القومية العربية ).. و تغنوا بما كان عليه العرب من تقدم وسيطرة علي معظم أقطار العالم المعروف في زمنهم .
التيارالثاتي الأقل في قوته و لكن كان له تأثيرعلي ثقافة شباب الطبقة ..كانت الماركسية أو الشيوعية الأممية المرتبطة (بستالين) الذى حقق إنتصارا ساحقا علي الالمان وظل يلاحقهم حتي دخل برلين.
لقد كانت هناك أحزاب إشتراكية و شيوعية مصرية لها خلاياها علي أرض الواقع تؤمن بان (علي عمال العالم أن يتحدوا) ورغم مطاردة الملك لهم والانجليز الا أنهم كانوا يأملون أن يبنوا علي أرض مصر وطنا علي شاكلة سوفيتات (ستالين) ويحققون مثل إنتصاراته علي الامبريالية العالمية .. ولكنهم للاسف لم ينجحوا الا في تقليد أسلوبه في التعالي.. وإنتهي الامر بهم بناء علي توجيهات خورشتشيف إلى حل تنظيماتهم والاندماج في الاتحاد الاشتراكي والتنظير له .
التيار الثالث كان تيارا سلفيا مسيحيا و اخر إسلاميا .. يرى كل منهما أن علينا الحذر من الغرب و تبعيته و أن نقيم مجتمعا له خصوصية (يراها كل طرف بتصوره )
المسيحيون يرون انهم اقباط (مصريون قدماء )عليهم التمسك بكنيسة تضم عشرة ملايين أو أكثر قليلا و تتجنب أن تبتلعهم كنائس تضم المليارات فتقوقعوا علي ذاتهم دون أى تطويرللخطاب الكنسي خوفا من فقد الهوية .. يتعايشون مع الحكام علي إختلاف توجهاتهم .. رغم التهميش المتعمد لهم و منعهم من شغل مناصب هامة في الحكومة ..و المجتمع .
والمسلمون كان تيارهم السلفي ضعيف الصوت مرتبط بافكار قادمة من الخارج يروجها المسلمون الهنود (الباكستان ) والافغان ويرعاها (ابناء عبد الوهاب ) في الجزيرة العربية .. ولا تجد الا الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة لينتشر بينها خطابهم ..مسيطرا علي أفرادها بواسطة المساعدات الاقتصادية والاجتماعية التي كرست في النهاية انفصاما مذهبيا لا زال قائما بحدة بعد أن تدخلت اموال السعودية و الخليج تدفق بكرم مشكوك في دوافعه
التيار الليبرالي الرابع تبناه حزب (الوفد) و رواد عظام مثل شبل شميل وسلامة موسي وطه حسين ولويس عوض .. وبعد إنقلاب العسكر لم يعد له مكان .. فالجميع نظروا إليه بارتياب علي اساس انه (خصوصا بعد تضخيم أحداث 4 فبراير 1942 الشهيرة ) يتوافق مع الاستعمار و أعوانه و فلسفاته و حرياته و ديموقراطيته المشكوك في صلاحيتها ( في تصورهم ) لمجتمع لم يشف بعد من آثار الإستعمار .
الطبقة الوسطي واجهت أيام صعبة و مشاكل أمنية متزايدة تحت الحكم الناصرى ( 1954 – 1970 ).. بعد حل الأحزاب و فتح المعتقلات للجميع ( قومي ، شيوعي ، قبطي ، إسلامي و ليبرالي ).و حتي لزملاء سيادته في تنظيم الضباط الأحرار .. فلا صوت يعلو علي صوته و لا سياسة غير سياسته
و مع ذلك فقد توسعت الطبقة الوسطي من حيث العدد بشكل ملفت .. علي حساب ملاك الأراضي و ارباب الصناعات ..و ضمت شرائح متعددة .. من الفلاحين الذين تمتعوا بالإصلاح الزراعي .. و المهنيين و العمال الذين عملوا في المصانع الجديدة ..و الموظفين الذين ملأوا دواوين الحكومة .. سماهم عبد الناصر(( بإتحاد القوى العاملة)) يحركهم رجال الإتحاد الإشتراكي وكوادرالتنظيم الطليعي من خلال الميثاق الوطنى .
صاحب هذا (شيء غريب ).. تحسن في معدلات النمو و إنخفاض في نسبة الفقراء و أعداد المعدمين..و زادت المصانع وتضاعفت المدارس و الوحدات الصحية عدة مرات ..وأنشئت الأجهزة الثقافية من عدم ( كونسرفتوار و معهد بالية و مسرح و سينما ) و توسع نفوذ القوة الناعمة المصرية بإنتشار فنها و أغانيها في الدول المحيطة الناطقة باللغة العربية..بعد وصول الإرسال الإذاعي و التلفزيوني إلي أماكن عديدة .. لتصبح مصر عبد الناصر الزعيمة ..و القائدة للنضال الوطني بالمنطقة و العدو الأساسي للإمبريالية فيها
ولولا العثرات العسكرية المتتالية التي هزت دعائم النظام. لتحقق لها مجتمعا شبيها بالدول التي كانت تحت نفوذ الإتحاد السوفيتي . رومانيا و المانيا و المجر و بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ..وباقي دول شرق أوروبا
عثرات الطبقة الوسطي بدأت مبكرا مع الهزائم العسكرية في معاركها ضد الصهاينة المتصارعين مع الفلسطينين عام 1947 ( وإعتبر الشعب أن الذى هزم هو الملك وأسلحته )
ثم هزيمة أخرى في بورسعيد عام 1956 ( وإعتبرها الشعب إنتصارا بعد تهديد بولجانين وأوامر أيزنهاور وإنسحاب العدوان ) ..
و مع عام 67 وهزيمتين في اليمن و سيناء .. إنتهت علاقة الطبقة الوسطي الطيبة بعسكر الانقلاب .

أسقطت الطبقة الوسطي في 15 مايو 1971 ممثليها من الناصريين ومحت توجهاتهم و أفكارهم القومية من المجتمع وبدأت تبحث عن سياسة ووجوه أخرى (يرضي عنها السيد الجديد الامريكي ).. لديها القدرة علي أن تحتفظ.. للطبقة بمكاسبها ..و سلطتها
فكان الإنفتاح و التغيرات السياسية في الإتحاد الإشتراكي بما سمي منابر ( يمين و ووسط و يسار ).. إنتهت باعلان وفاة الإتحاد الإشتركي و التنظيم الطليعي .. والسماح للأحزاب بالتكوين و العمل تحت رقابة أمنية مشددة .
قانون ((إستثمار المال العربى والأجنبى والمناطق الحرة)) رقم 43 لسنة 1974.أدى إلي تكوين شركات إستثمار معفية من الضرائب .. نال نصيب الأسد منها اصدقاء الرئيس و من يرضي عنهم مثل رشاد عثمان الذى أوصاة علي الأسكندرية ..فوصلت ثروته من أعمال غير إنتاجية في الميناء إلى ثلاثمائة مليون جنيه و هو مبلغ خرافي في ذلك الزمن يجعله أحد حيتان عصر السادات . .
ثم ضرب اليسار بكل تنويعاته حتي الطلابية منها .. بإعطاء النور الأخضر للتيارات الإسلامية بالنمو و التمكن ..من الجامعات و النقابات و اجهزة الإعلام .
و تحولت أهداف الطبقة المتوسطة إلي الكسب السريع بغض النظر عن الوسيلة حتي لو كانت تجارة المخدرات أو البلطجة أو تهريب الأثار .و الدعارة ..و الرشوة و إستغلال المنصب

وهكذا.. للاسف.. كما تفسد السمكة من الرأس أفسد الوجه الآخرللطبقة المتوسطة مجتمعها إفسادا كاملا كان من الصعب أن يقوم به أعدى أعداء الوطن

الطبقة التي عرفناها قائدة في منتصف القرن العشرين تفسخت، تميعت، توحشت وأصبحت تضم عاهات خلـّفَها .. حكم السادات ومن بعده مبارك ..
ومع بداية غير موفقة لتدخل البنك الدولي و صندوق النقد في السياسة المالية و الإقتصادية للبلد ..صاحبه مظاهرات شعبية و إنتفاضات تشكو من ((أن كيلو اللحمة بقي بجنية )).. أصبح كل ما يهم من أحاطوا بالرئيس أو حازوا علي ثقته هو الكسب و إستغلال النفوذ و التربح من المنصب .
ثم ترهل وفسد الجهاز الادارى بدخول أفراده في متاهات الإنقتاح و حيازة الثروة ..ففسد تباعا المجتمع واصبح معرضا لهجوم أصحاب دولارات الجاز وشراء الذمم والتلاعب بالشعب باسم الدين .
الطبقة الوسطي التي نشأت مع إطلال إسماعيل ووالده علي اوروبا و إكتسبت ثقافتها و إسلوب حياتها من نماذج مجتمعات خارجية .. فقدت القدرة علي الابتكار والتطور وأصبح همها الأوحد هو الحفاظ علي كراسي الحكم الذى يمنح القوة و الثروة و النفوذ .. تبدل الوجوه ببساطة .. فعندما تجد أن الجماهير علي وشك الكفر بقياداتها تقدم عبد الناصر بدلا من فاروق الفاسد .. والسادات بديلا لعبد الناصر المهزوم .. والمبارك العسكرى ( صاحب الضربة الجوية في حرب 73 ) بعد إغتيال الخائن .. ليحافظ الأخيرعلي مصالحها بركود المجتمع وتحوله إلى بحيرة تمتلئ بالعفن والضواري.
عندما ينتهي صبر الشعب من سوء الاحوال.. تقدم الطبقة له كبار رجال الجيش المليارديرات طنطاوى وشلة القادة كوجوه جديدة .. تقف بكل إحترام أمام كاميرات التلفزيون تؤدى التحية العسكرية للجماهير الغاضبة ... التي لم تعد تثق بعد في حكم الضباط .
ثم تستبدلهم (أى الطبقة ) بالمرشد على أمل أن يكون ممثل زقاق الاسلامجية في الشارع السياسي المصرى أكثر مهارة وقبولا...
وعندما يحدث العكس وتقوم القيامة ضد سياسة جماعته المتحجرة تقدم الطبقة وجه قاضي مبتسم ورئيس وزراء من الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف ..
لنعيش فترة إنتقالية أخرى تلتقط فيها الطبقة انفاسها و تعيد تفنيط اوراق اللعب و لتتحفنا بتشكيلة جديدة من وجوه عسكرية تنظر لنا من خلف نظارة سوداء تخفي النوايا و((ترى أننا نور عنيهم )).. عسي أن تهدأ ثائرة المهتاجين.
بعد جكم كبار الضباط من أصحاب المليارات و الملايين لعشر سنوات..وتطبيق إرشادات البنك الدولي و صندوق الدين فيما يسمي بالإصلاح الإقتصادى ..لم نعد نجد طبقة وسطي مماثلة لتلك التي ملأت حياتنا بالخير.. منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر حتى العقد السابع من القرن العشرين.
لدينا طبقة ثرية موصي بها بواسطة صندوق النقد .. متخمة من أموال القروض و عمل مشاريع لا قيمة لها ..مشغولة بإظهار ثرائها منعزلة عن المجتمع لا تتفاعل معه
وأخرى مطحونة تعيش على حافة الفقر مشغولة بتوفير أساسيات الحياة، و ما بينهما بقايا طبقة تأكلت تحت ضربات المليونيرات و سياستهم.. أضناها فقد قيمة مدخراتها و منافسة الإقتصاد الميرى لمشاريعها ..و تغول أجهزة الجباية و الأمن ..و التكلفة الفلكية للحياة .. بعد أن أصبح لكل خدمة ثمنا مضاعفا لعشرات المرات و الدولار الذى كان بثمانية جنيهات أصبح بأربعين أو خمسين جنيه

لقد عدنا بعد جولة طويلة مع حكم الطبقة الوسطي بكل تنويعاتها إلي الوضع الذى تكلم عنه هيرودوت ((بمصر طبقين الفرق بينهما واسع))

فأبناء الطبقة العليا صاروا يدخلون الأبناء في نظم تعليمية تتكلف الملايين أو يشحنونهم للخارج ليتعلموا في مدارس أوروبا .. تغربهم تماما عن باقى الطبقات .. وتعد نسبة كبيرة منهم للهجرة خارج البلاد.
وهم قد عزلوا مساكنهم فى «كمباوندات» تتجاوز ثمن الوحدة منها عدة ملايين من الجنيهات و صيانتها الالاف .. داخل أسوار لها بوابات تمنع دخول السوقة و الدهماء
ويرفهون عن أنفسهم بمعزل عن باقى الشعب، فبعد أن كانت المصايف تتدرج طبقيا بين المنتزه وميامى والأنفوشى .. صارت مستعمرات الساحل الشمالي والعلمين و الجونة ..و شرم الشيخ..و ملاهيها و مطاعمها .. أماكن يستحيل علي الطبقة الوسطي دخولها ..
و بعد أن كان بالتلفزيون قناتين أصبحت هناك أكثر من وسيلة غالية الثمن لتوفير خدمة إعلامية فاخرة تشمل الاف المحطات الفضائية .. و بعد أن كانت السينما ثلاث درجات .. أصبحت دور السينما صغيرة و مكلفة ..
و بعد ما كان الفول و الطعمية في متناول الفقراء قبل الأغنياء .. أصبحت المطاعم و المقاهي ذات الأسماء الأجنبية المستوردة تقدم خدماتها للمترفين بمئات الجنيهات...تبيع المياة في زجاجات ..والسجاير و البنزين و الملابس و الأحذية بعشرات الجنيهات ..
لتعرف الفرق بين العصرين يكفي أن تقارن أداء المهندس عزيز صدقي أبو الصناعة أو المهندس محمد صدقي سليمان باني السد العالي .. بسيادة الفريق المهندس كامل الوزيرى اللي نحل وبر مصر كما أطلق عليه رئيسه .
إنها عشر سنوات فقط .. تغير فيها المجتمع ..ووضع الذين يحكمون مصر المسمارالأساسي في نعش حكم الطبقة الوسطي .. بما يسمي الإصلاح الإقتصادى الذى خسف بقيمة الجنية الأرض .. و غير المقاييس الإقتصادية لتفريغ جيوب المصريين عن طريق الضرائب و الأتاوات ..و الصناديق الإقتصادية مجهولة الغرض والتي لا يمكن محاسبتها إلا بواسطة الرئاسة
إقترض الحكام ديون متلتلة ..تستهلك خدمتها أغلب الموازنة .. وأقاموا مشاريع لا قيمة لها و لا تهم إلا شريحة جديدة بدات تتبدى أصبحوا يمتلكون الملايين و المليارات .و حصنوا أنفسهم بالقوانين و اللوائح التي يصدرها برلمان ملاكي و بالسجون العديدة الجديدة و المعتقلات .. يعسكرون الجهاز الإدارى .. ليتعود علي الضبط و الربط و الطاعة ..و ينشئون أساسات حكم طبقة رأسمالية طفيلية كومبرادورية ريعية..( لا هي رأسمالية تنتج ..و لا إشتراكية تهتم بالبشر ) لينتهي حكم وسلطة الطبقة الوسطي و تتاكل بفعل الغلاء و النهب المستمر لثرواتها و نعود لمجتمع .. ما قبل النهضة في منتصف القرن التاسع عشر.
أغنياء متنعمين شديدى الثراء يشكلون طبقة مستغلة جديدة يعمل البنك الدولي علي تثبيت قبضتها كدعامة الإصلاح الإقتصادى .. وضع بذرتها السادات ..و رعاها و نماها جمال مبارك ..و إستخدمها حضرات المليونيرات في مواجهة أغلبية لا تجد قوت يومها و تعجز عن شراء كيلو سكر ...و لا أريد أن أبالغ وأتكلم عن كيلو لحمة أصبح بمئات الجنيهات .