فن ليس للتسلية


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7724 - 2023 / 9 / 4 - 10:02
المحور: الادب والفن     

في كلية الهندسة.. كانت بداية طريق المعرفة ..درسنا في قسم عمارة ..تاريخ الفنون .. مع تاريخ العمارة ..و فلسفة الجمال(. (Aesthetics. كانت مناهج جذابة رغم كونها قدمت بشكل يلمس رؤوس المواضيع دون تعمق .. قد يكون من باب العلم بالشيء أو بهدف إثارة الفضول و الرغبة لدينا في الإستزادة بالتثقيف الذاتي ..
في زمننا ( نهاية خمسينيات القرن الماضي )..كان عليك أن تعاني كي تتعلم ذاتيا أو حتي أكاديميا ..المراجع غير متوفرة .. والمتاحف محلية الطابع فقيرة.. و المعارض محدودة شبه سرية يتم تداول أخبارها بين عدد من المهتمين ..و تقام في أماكن غير معتني بها . لا يرتادها غير المتخصصين .. و العلاقة مع العالم الخارجي الإستعمارى شبه مقطوعة.
من المنشئات الثقافية السرية كانت مكتبة و متحف الفن الحديث..المبني الملاصق لسينما قصر النيل ( تم هدمة اليوم و بناء فندق ) .. مكان غير مطروق يحتل قصر قديم للكونت ((زغيب)) جرى تحويلة (قسرا ) إلي متحف بجوار فيلا لهدى شعراوي التي أصبحت مكتبة فنون .
لا أعرف إذا كان هذا التاريخ المروى شفاها عنهما صحيحا أم لا ..لقد كنت دائم الزيارة للمكان و الحديقة المواجهه له لأطلع علي المراجع و الكتب الخاصة بالفنون و العمارة .. ولم اسأل أحدهم عن تاريخ المبني.. رغم أن طرازه المعمارى كان يدعو للتساؤل .
في المكتبة بصالة الإستقبال كان المكان المخصص للإستماع .. تطلب الإسطوانة ثم تجلس تنتظر دورك .... و كان في ذلك الوقت هناك مسلسل بالإذاعة لفتت نظرى مقدمته و تبين أنها مأخوذة عن رقصة السيف من بالية (جاينية ) لختشاتوريان فكنت أطلب هذا البالية .. بالإضافة إلي مقطوعة (شهرزاد) لريمسكي كورساكوف التي كانت تستخدم في رمضان ..كتتر لبرنامج الف ليلة و ليلة.
في ذلك الوقت تعرفت علي طالب في معهد التربية الموسيقية مقارب لي في السن .. نصحني بالإستماع إلي أعمال أخرى غير ختاشاتوريان و كورساكوف ..بدأ بفالسات لشيسترواس و شوبان و سوناتات لهايدن ..ثم كونشيرتوهات البيانو والأوركسترا الخامس لبتهوفن والأول لتشيكوفسكى و الثاني لرحمانينوف
عندما تعودت أذني علي سماع الموسيقي ذات الشكل Formed music ) ) التي لا تستخدم الربع تون الشرقي.. كان لابد من دراسة قواعدها Aesthetics .. من كتب صديقي التي أعارني إياها ..لأتأمل أثناء الإستماع (الفورم و الريتم و صراع لحني الميلودى في السوناتا و الهارموني و الكونتربوينت ) ..
ثم أصبحت أفرق بين أنواع الموسيقي ( سوناتا ،كونشيرتو ، سيمفونية و أوبرا ). و أتابع حركات السيمفونية التقليدية الثلاثة ((الإفتتاحية في قالب السوناتا ثم الحركة الثانية البطيئة فالحركة النهائية السريعة))... بسرعة أصبحت عاشقا لكورالية بتهوفن السيمفونية التاسعة .. ودوكاتا باخ و للعالم الجديد لديفورجاك.. والسيمفونية 40 لموتسارت ..
بمرور الوقت ذهبت لمبني قصر( الكونت زغيب ) المجاورللمكتبة حيث تعرض في 44 غرفة منه أعمال الفنانين المصريين المحدثين ..من أمثال سيف وانلي و يوسف كامل ومحمود سعيد، ومحمد ناجى، وراغب عياد.. و عبد الهادى الجزار وتحية حليم و صلاح طاهر . و غيرهم
و بعض الأعمال للنحاتين المصريين المحدثين مثل محمود مختار ( له متحف خاص في حديقة الحرية ) و جمال السجيني و أدم حنين و حسن حشمت.. عالم أخر مجهل لاغلب المصريين يعتبر الأقرب للعالمية .
بدأت أزور المعارض الفنية المعلن عنها في المكتبة و المتحف و تقدم فنون حديثة ..سواء ((معرض الربيع)) في شقة تحتلها جمعية ((محبي الفنون الجميلة )) بشارع الجلاء .. أو ((بينالي الأسكندرية )) لاصبح خلال سنتين .. من الدراسة و الفهم .. ملما بمعني الفن الحديث..
الأعمال الفنية عموما متشابهه القوالب..و يمكن تصنيفها من حيث الشكل إلي مجموعتين أساسيتين .. أحدهما هي الحدوته ذات البداية و القمة و الخاتمة و الأخرى هي اللحن الذى تتأثر به دون أن يكون له معني موحدا يصل لكل المتلقين
المجموعة الأولي في الأدب و المسرح و الأغنية و اللوحة و التمثال .. شاعت في العصور الوسيطة ومعدة للمتلقي السلبي الذي ينتظر من المبدع أن يحاكي الطبيعة أو ينقلها له نقلا .. يسقيه الموضوع بالمعلقة .. لا يترك له أى مجال للتفسير المختلف.... أو المشاركة .
في الحالة الثانية يغلب علي الأعمال التجريد و الرمز و ألإبتكار و يصبح المتلقي إيجابيا يشارك المؤلف في حلمه.. و يكمل عمله بما يصله من إنطباعات تختلف من فرد لأخر حسب ثقافتة ..و قدرته علي الخيال.
كان النوع الثاني هو الذى يجذب إنتباهي بصفتي معمارى .. و كنت أتتبعة في مسرح اللامعقول أو سينما بازوليني و فليني أو روايات أندرية جيد و كافكا و مسرح بيكت و اداموف. و في لوحات كاندينسكي و موندريان.. و في إلانتاج الأدبي لجيل الستينيات .. و علي راسهم يوسف إدريس .و صنع اللة إبراهيم .
في نهاية سنين دراستي كان مشروع تخرجي من الكلية (( مكتبة و متحف للفن الحديث )).. وضعت فيه كل ما تعلمته عن تصميم المتاحف و جاء علي هيئة لوحة من لوحات موندريان التي تتبع التجريد المعمارى ..
أمام ال Jury دار الحديث مع الأساتذة الممتحنين حول معني الفن الحديث و رموزه من الفنانين ..و تطرق لمقارنات بين باقي الفنون خصوصا الموسيقي و المسرح ..فوجدت منهم تشجيعا حفزني - بالإضافة للحصول علي درجة الإمتياز المرتفعة - أن اكمل معارفي بعد التخرج... كنت أعد نفسي أن أكون فنانا .. في مكان يجد أن الفن تضييع للوقت يقوم به المجانين .. فإنتهيت أقضي 30 سنة من عمرى بين فضلات أهل القاهرة في محطة تنقية مياة الصرف ألصحي .
فنون الإنسان .. في بداية وعية .. التي حفظتها لنا جدران كهوف أوروبا أو مقابر المصريين القدماء و الأشوريين و البابليين .. لم تكن نقلا عن الطبيعة .. بل كانت من النوع الثاني .. الأقرب للتجريد و الرمز .. و الإنطباع .. منها للحكي و القص و المحاكاة.
و لقد لاحظ أغلب الباحثون الذين قرأت لهم .. أن هذا هو حال الأعمال الفنية للشعوب البدائية في إفريقيا و امريكا أو الهند و الصين و جنوب شرق أسيا و إستراليا قبل الغزو الأبيض.
هذه الفنون البدائية كما يقول المؤرخون تأثر بها رواد الحركة الفنية الحديثة .. من أمثال جوجان .. و فان جوخ .. و جويا .. و بيكاسو ..و موديلياني ..و فجرت لديهم طاقات التمرد علي المألوف .. و كسر القيود الأكاديمية و أوصلتهم للتجريد الحديث
المقارنة بين قطع من الفن البدائي الذى أنتجته الشعوب الأولي .. و ما قدمه الفنانون في القرن العشرين .. ستجده في كتاب هام بعنوان ((Modern and primitive art )) تأليف شارلي وينتينك .. و المنشور عام 1979 لأوكسفورد.
المؤلف يقدم فيه نماذج من إنتاج شعوب بدائية ( للرسم أو النحت أو بعض الفنون التطبيقية مثل الأقمشة ، الحلي ، الفريسك .. أو الأدوات المستخدمه في الحرب و السلام .. من سكاكين و رماح .. و دروع) .و مقارنتها بمثيلتها الحديثة
لو كتبت عنوان الكتاب علي جوجل .. سيقدم لك عالما مبهجا جميلا لا تستطيع أن تميز فيه بين ما صنعه (شاجال) .. و ما قدمه نظيرة الفنان البدائي .
تطور الفن من الرمز و التجريد البدائي العفوى ..للرمز و التجريد القصدى .. رحلة طويلة تستحق التأمل .. ستجدها في كتب تاريخ الفن مثل((Gardner s Art through the ages ))
كنت أود أن أترجم هذا الكتاب في يوم ما .. و لكنه عمل مكلف في الجهد والطباعة و توزيعه لن يلق الإهتمام الكافي في بلد تعاني من الأمية الفنية
بل أشك أنه يمكن طباعته في بلدنا لكثرة اللوحات و الرسومات التوضيحية ..إلا إذا كان القائم عليه في حجم و نفوذ وزير ثقافة مثل ثروت عكاشة ..كما فعل في موسوعتة ((العين تسمع والأذن ترى)).. و هو أمر أصبح شبه مستحيل مع أنواع الوزيرات الحاليات .
المؤلف في هذا المرجع الفني الهام .. يستعرض التسلسل الزمني للعصور و كيف سلمت الشعوب بعضها بعضا مشعل الإبداع و الحضارة .. بدأ من فنون الكهوف ثم العصر الحجرى.. حتي فنون العصر الحديث مرورا بالفن السومرى و الأكادى ، و البابلي و الأشورى و الفارسي ..ثم المصرى القديم الذى يعتبر الجد الأكبر للحضارة المعاصرة بعد أن نقلتها عنه شعوب بحر إيجة وأسلمتها لليونان و الرومان .
تطور الفن في زمن المسيحية المبكر والعصر البيزنطى وما صاحبها من فنون العصور الوسطي ثم الفن الرومانسي و القوطي تشكل أجزاء مهمة .. من الكتاب
المؤلف قدم أيضا لمحات عن فنون الهند و الصين و اليابان ..والسكان الأصليين في أمريكا و جنوب الباسفيك ... ثم فنون عصر النهضة و الباروك و الركوكو ..داخل إيطاليا و خارجها حتي القرن الثامن عشر ...
بالكتاب رصد لتطور الفن المعاصر خلال القرن التاسع عشر و يشمل المرحلة الأكاديمية الكلاسيكية و الفن الرومانسي و الخروج للطبيعة التي قادت للواقعية .
ثم ملاحق عن الفن خلال القرن العشرين حيث ظهرت مدارس التأثيرية و التكعيبية والتجريد و الداديزم و السريالية
و تأثير المراحل المختلفة علي كل أنواع الفنون .. من رسم للنحت للعمارة للأدب و المسرح و الشعر .. عرض شيق و ممتع لمن يستطيع التواصل بالإنجليزية .
المؤلف يقدم بالإضافة للنماذج المعبرة عن العصور .. أهم العوامل الفلسفية التي توضع في الإعتبار عند دراسة الفن
إذ يتطلب إنتاج العمل الفني توفر ثلاثة عناصر هامة .. السبب ( المضمون )..و الشكل (فورم ).. و وسيلة التوصيل ( حجر ،خشب معدن ، ورق ، جدران .. قماش ...حلي ..و أنواع مختلفة من الألوان ، وقد يكون الوسيط بشر يقومون بالغناء أو التمثيل أو العزف أو عرض الملابس و الحلي ) ..
الفن الحديث كسر المألوف في العناصر الثلاثة و إستخدم في التعبير وسائط لم يتخيل أبدا الأجداد .. أنها ستكون موضوعا للفن .
اليوم.. بعد رحلة طويلة.. أشعر بالغربة وأجد نفسي بين شقي الرحي .. أحدهما ما تنتجه بلدى من فن شديد التدهور والبدائية و التخلف (( سينما ، رقص ، موسيقي ،غناء ، نحت ، رسم ، تنسيق حدائق ، ديكور ، عمارة ، ملابس و أثاث)) تجده أينما وجهت نظرك و كان هناك مليونير
و في نفس الوقت أراقب زمن المعجزات مع الذكاء الإصطناعي الذى يغيركل مفاهيم القرون السابقة .. إن في إستطاعة الكومبيوتر و برامج خاصة متداولة في بلاد الواق الواق .. أن يؤدى في دقائق ما يقوم به الفنان ( علي كل المستويات بما في ذلك العمارة أو الموسيقي ) في أيام و أسابيع .. و يخرج إنتاجه من حيث الجودة و الموائمة أفضل . وفي هذه الحالة لن يحتاج فنان المستقبل للموهبة بقدر ما عليه تحسين قدرته علي صياغة طلبه في كلمات يلقن بها عفريت المصباح ..
الحدوته لازالت تحمل الكثير .. وقد أعود لها .. لو إنزاحت غمة سيطرة أشباه المتعلمين علي الإبداع و الفنون