أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد الطيب - تأملات في معنى الطبخة السياسية














المزيد.....

تأملات في معنى الطبخة السياسية


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 09:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


دخلتُ عليه في المطبخ وهو يحرّك المغرفة في قدرٍ يغلي، يداه مشغولتان، وملامحه هادئة كمن يعرف تمامًا ما يفعل. سألته: ماذا تُعد؟ قال مبتسمًا: أُعدّ طبخة سياسية. ضحكتُ من النكتة، وضحك هو، وضحك الجمهورٌ لانه يعرف أن الضحك هنا ليس للمتعة فقط، بل لأنه اعتراف ضمني بحقيقة مألوفة. فالطبخة السياسية ليست دعابة عابرة، بل مصطلح ثقيل الدلالة، يعيش في لغتنا اليومية لأنه يعيش قبلها في واقعنا.
الطبخة السياسية، في جوهرها، فعل يُدار خارج الضوء. هي قرار أو اتفاق أو تسوية لا تُصنع على منضدة الحوار العلني، بل في غرف مغلقة، حيث تُوزن الكلمات كما تُوزن البهارات، ويُحسب الوقت كما تُحسب مدة النضج. لا يُهم فيها المعلن بقدر ما يُهم المخفي، ولا يُقاس نجاحها بمدى صدقها، بل بقدرتها على المرور بأقل ضجيج ممكن.
كما في المطبخ، لا يبدأ الطهي من القدر، بل من اختيار المكونات. شخصيات بعينها، قوى متناقضة ظاهريًا لكنها قابلة للامتزاج، أزمات جاهزة للاستثمار، ومخاوف عامة تصلح لأن تكون وقودًا. ثم تبدأ عملية التحريك البطيء: لقاءات لا تُعلن، تصريحات ملتبسة، تسريبات محسوبة، وصمتٌ أطول مما ينبغي. كل شيء يُدار على نار هادئة، لأن الاستعجال قد يحرق الطبخة، وكشفها مبكرًا قد يفسدها.
وحين تقترب اللحظة المناسبة، يُختبر الطعم. تُقاس ردود الفعل، يُراقَب الشارع، تُقرأ العناوين، ثم تُعدَّل الوصفة عند الحاجة. بعدها فقط يُرفع الغطاء ويُقدَّم الطبق للناس بوصفه حلًا، أو ضرورة، أو قدرًا لا مفر منه. كثيرًا ما يبدو القرار مفاجئًا، لكنه في الحقيقة نتيجة طبخ طويل لم نكن مدعوين لمشاهدته.
نرى شواهد هذه الطبخة في تحالفات تولد بلا منطق، وفي خصومات تنتهي فجأة دون اعتذار، وفي أزمات تُستنزف حتى آخر قطرة خوف ثم تُحل في لحظة واحدة. نراها في خطابين متوازيين: واحد للجمهور مليء بالشعارات، وآخر خلف الكواليس مليء بالمصافحات. نراها حين يسقط سياسي فجأة، أو حين يُعاد تدوير آخر كان يُقدَّم بالأمس بوصفه المشكلة.
ليست كل طبخة سياسية شرًا مطلقًا. أحيانًا تكون السياسة فن إدارة الممكن، وتكون السرية وسيلة لتفادي صدام أكبر أو كارثة أوسع. لكن الخطر يبدأ حين تتحول الطبخة إلى أسلوب دائم، وحين يصبح الإخفاء قاعدة لا استثناء، وحين يُختزل الشعب في متلقٍ صامت لا يعرف ماذا أُضيف إلى طبقه ولا لماذا تغيّر الطعم.
الفرق بين الدهاء السياسي والخداع السياسي هو الفرق بين من يطبخ ليحفظ الجسد، ومن يطبخ ليخدّر الوعي. وحين تُقدَّم قرارات تمس حياة الناس وكرامتهم على أنها إنجازات، بينما هي في حقيقتها صفقات، نكون أمام سياسة فقدت معناها الأخلاقي وتحولت إلى حرفة مراوغة.
ضحكنا في المطبخ لأننا نعرف هذا الطعم جيدًا. نضحك أحيانًا لأن الضحك أقل كلفة من الغضب، ولأن السخرية آخر ما تبقى حين تُدار الأمور بعيدًا عنا. لكن الحقيقة البسيطة تظل قائمة: في السياسة كما في الطعام، أسوأ ما يمكن أن يحدث أن تأكل طبقًا لم تختر مكوناته، ولا تعرف من طبخه، ولا لماذا قُدِّم لك في هذا التوقيت بالذات.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف خنتُ ضميري لأرفع وهماً ؟
- حضور باهت
- حين يصبح الهيام قدَرًا لا يُقاوَم
- كن صديقي
- تأملات في بؤس المشهد الثقافي
- كل الطرق تؤدي اليك
- قربكِ يؤذيني
- الوعي كألمٍ ناعم
- بين الطيبة والانفعال: سقوط الصورة الجميلة
- تعلموا النسيان .. وتركوا لنا الذنب كاملاً
- عدتِ متأخرة… فوجدتِ الخراب منظّماً
- عودة الشخص الآخر… عودة الحياة بطعم العتاب
- إمرأة من خيال
- همسة تصل… فتُزهر الروح
- الإنسان بعد انتهاء صلاحيته: قراءة في عنف التصنيف
- منحة المثقفين في ميزان التسليع: حين تُقاس الثقافة بفتات المو ...
- الشتيمة كفشل ثقافي: لماذا نُهين الصبر والوفاء؟
- صورة واحدة تكشف صدق الحوارات
- الهاتف… اليد الثالثة التي أطاحت بشخصية الشباب
- ابن الحضارة لا يُهزم


المزيد.....




- مراهقون يباغتون فتاة ويقتلونها أمام شقيقتها في وضح النهار بأ ...
- أصوات غريبة تثير الرعب في سينسيناتي.. و-دليل- قد يقود إلى حل ...
- عاصفة تضرب كاليفورنيا متسببة بفيضانات وانهيارات طينية وتساقط ...
- ما العلاقة بين الحميات الغذائية القاسية وانقطاع الدورة الشهر ...
- صحف عالمية: إسرائيل تسعى لتحجيم قدرة إيران الصاروخية وواشنطن ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتدي على -بابا نويل- وتثير غضب المنصات
- إحياء احتفالات عيد الميلاد في بيت لحم بعد توقف عامين بسبب حر ...
- كيف يؤثر تدهور القطاع الصحي في غزة على حياة المرضى؟
- إقرار ميزانية التسلح في ألمانيا يثير جدلا ومخاوف
- غزة تواجه كارثة إنسانية ومجاعة وشيكة بسبب الحرب


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد الطيب - تأملات في معنى الطبخة السياسية