أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عماد الطيب - ابن الحضارة لا يُهزم














المزيد.....

ابن الحضارة لا يُهزم


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8557 - 2025 / 12 / 15 - 00:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ليست الحضارة حجارةً صامتة ولا متاحف مغلقة ولا تواريخ تُعلَّق على الجدران؛ الحضارة كائن حيّ، يتنفس في الإنسان، ويتجلى في سلوكه، وفي قدرته على الصمود حين تضيق الحياة، وعلى الابتكار حين تنعدم الوسائل. من هنا نفهم أن الإنسان ابنُ حضارته، وأن من وُلد في عمق التاريخ لا تهزمه مصاعب الأيام بسهولة، لأنه لا يواجه الحاضر وحده، بل يحمل خلفه آلاف السنين من التراكم الإنساني والمعرفي.
حين نتأمل شخصيتين إنسانيتين مثل العراقي والمصري، لا ننظر إلى شعبين عاديين، بل إلى مختبرين تاريخيين عاشا كل أشكال الصعود والانكسار، الحرب والسلام، الفقر والغنى، الاحتلال والتحرر. ومع ذلك، يدهشك أن هاتين الشخصيتين تتعاملان مع المأساة وكأنها جزء من الروتين اليومي، لا بوصفها نهاية الحياة بل شرطًا للاستمرار فيها. هذا الاعتياد على التحدي ليس تطبيعًا مع الألم، بل تحصين داخلي تشكّل عبر قرون من الصراع مع الجغرافيا والسلطة والزمن.
العراقي، ابن الرافدين، له الفضل الأول في تعليم الشعوب الحرف الأول . وُلد في أرض لم تعرف الهدوء طويلًا. حضارات قامت وسقطت، غزوات تعاقبت، دول تشكلت وانهارت، لكن الإنسان بقي. تعلّم العراقي باكرًا أن الدولة قد تخونه، وأن السلطة قد تنقلب عليه، وأن الحرب قد تصبح جارته الدائمة، فاضطر إلى بناء دولة داخلية، أخلاقية وثقافية، تحميه من الانهيار. لذلك تراه ساخرًا في قلب المأساة، ذكيًا في أحلك الظروف، مبدعًا بأدوات شحيحة، لأن الإبداع عنده ليس ترفًا بل ضرورة للبقاء.
أما المصري، ابن النيل، صاحب حضارة كبيرة وارث عظيم . فقد تعايش مع الزمن الطويل، مع الدولة المركزية، مع الصبر بوصفه فلسفة حياة. المصري لا يستعجل التاريخ، لأنه يعرف أن ما لا يتحقق اليوم قد يتحقق بعد جيل. هذه العلاقة الخاصة مع الزمن جعلته قادرًا على التكيّف دون أن يفقد هويته، وعلى الضحك وسط الضيق، وعلى تحويل المعاناة إلى نكتة، والنكتة إلى وعي، والوعي إلى استمرار. المصري لا يثور دائمًا، لكنه لا ينكسر، وهذه معادلة حضارية معقدة لا يفهمها من يقيس الشعوب بمؤشرات الدخل فقط.
اللافت أن العراقي والمصري لا يعيشان التحديات كاستثناء، بل كقاعدة. الحرب، الفقر، الفوضى السياسية، ضعف الخدمات، ليست عندهما أحداثًا طارئة بل سياقًا عامًا للحياة. ومع ذلك، تخرج من هاتين البيئتين الفنون، والآداب، والعلوم، والاختراعات الصغيرة التي تصنع الحياة اليومية. هذا النوع من الإبداع لا يولد في الرفاه، بل في الضغط، لأن الضغط يصنع الحاجة، والحاجة تولد الفكرة، والفكرة حين تصرّ تتحول إلى إنجاز.
في المقابل، نجد شعوبًا أخرى تتخم بالمال، تعيش في رفاهية عالية، تمتلك أحدث التقنيات وأوسع الإمكانيات، لكنها حين تُختبر حضاريًا لا تقدّم شيئًا أصيلًا. كل ما تفعله هو استنساخ تجارب الآخرين، إعادة إنتاج أفكار جاهزة، استيراد معنى الحياة بدل صناعته. هذه الشعوب تملك الوسائل لكنها تفتقر إلى الدافع، تملك المال لكنها لا تملك القلق الخلّاق الذي يدفع إلى الابتكار. الرفاه الطويل، حين لا يُدعّم بثقافة عميقة، يتحول إلى تخدير حضاري.
الفارق الجوهري هنا ليس في الذكاء الفطري ولا في الموارد، بل في العلاقة مع المعاناة. العراقي والمصري لم يختارا الألم، لكنهما تعلّما كيف يحوّلانه إلى خبرة. لذلك نجد الطبيب العراقي المبدع رغم شحة المستشفيات، والمهندس المصري الخلّاق رغم البيروقراطية، والفنان في البلدين قادرًا على إنتاج الجمال من قلب القبح. هذه ليست مصادفة، بل نتيجة تاريخ طويل من التفاوض القاسي مع الواقع.
كما أن الثقافة في هذين المجتمعين ليست حكرًا على النخب. الحكمة الشعبية، الأمثال، النكات، الأغاني، كلها أدوات وعي جماعي. الإنسان هنا مثقف بالفطرة، لأنه مجبر على الفهم كي لا يُسحق. وهذا ما يمنح العراقي والمصري رقيًا إنسانيًا خاصًا، يظهر في التعاطف، وفي تقدير المعنى، وفي الإحساس العميق بالمأساة الإنسانية، لا كمشهد عابر بل كتجربة مشتركة.
الصدمة الحقيقية أن العالم كثيرًا ما يقيس القيمة الإنسانية بمؤشرات اقتصادية باردة، فيضع شعوبًا في القمة لأنها غنية، ويتجاهل شعوبًا أخرى لأنها متعبة. لكنه ينسى أن الحضارة لا تُقاس بعدد الأبراج، بل بعدد الأسئلة، ولا تُقاس بسرعة الإنترنت، بل بعمق الوعي. من هذه الزاوية، يقف العراقي والمصري في موقع متقدم أخلاقيًا وثقافيًا، لأنهما لم يفقدا إنسانيتهما رغم كل ما فُرض عليهما.
العراقي والمصري يقدّمان للعالم درسًا صامتًا: أن الإنسان، حين يكون ابن حضارة حقيقية، لا يُهزم. قد يتعب، قد ينزف، قد يترنح، لكنه لا يسقط نهائيًا. لأنه لا يعيش على سطح اللحظة، بل على عمق التاريخ. وهذا العمق هو سلاحه الأخير، والأقوى، في مواجهة عالم يزداد ثراءً ويزداد فقرًا في المعنى.
في زمن تُشترى فيه القيم وتُستأجر فيه الأفكار، يبقى العراقي والمصري شاهدين على أن الثقافة الحقيقية لا تُستورد، وأن الرقي الإنساني لا يُمنح، بل يُنتزع من قلب المعاناة. وهذا وحده كافٍ ليجعلهما، رغم كل شيء، في قمة المشهد الحضاري، لا على هامشه. ليظل هاتان الشخصيتان مدار اعجاب وحسد من جميع شعوب الارض .



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصعب اشتياق
- أصدقاء مرّوا… فصاروا وطناً
- حب يفيض على صدر يخشى الندى
- المرأة الأخرى
- الإنسان الأخير في زمن الخراب الناعم
- الاعلام الحربي الناعم
- عبث العطاء في عالم بلا جذور
- وهم المكانة وحقيقة الآخر
- عراقٌ مُعَطَّل
- حين تمطر… يغرق الوطن في قطرة
- لستُ بخير
- مسافات الآمان
- شيوخٌ تقتل النخوة
- حين يبلغ الرجل ستينه… يسقط القناع الأخير
- الحرية في جناح عصفور
- اعترافات القلب… وانسحابات الروح
- إعلانات ساذجة في زمن الفوضى الرقمية
- الكوكايين السلوكي: كيف نحمي جيلنا من الهاوية الرقمية؟-
- كل الغياب يعود الا انت
- دعينا نلتقي


المزيد.....




- مرشح أقصى اليمين يفوز بالرئاسة في تشيلي
- تحول -غير مسبوق- من أوكرانيا.. وتقدم في مفاوضات وقف الحرب
- مستشار خامنئي: إيران ستدعم حزب الله بحزم
- الكافيين يطارد المراهقين في موسم الامتحانات.. انتباه لحظي وم ...
- فيديو متداول لـ-احتفال مؤيدي الحكومة السورية- بهجوم تدمر.. ه ...
- وسط تقدم المفاوضات.. أوكرانيا تتخلى عن طموح الانضمام للناتو ...
- اكتشاف لوحة فسيفساء ضخمة شمال غربي دمشق أثناء أعمال زراعية
- مؤتمر الجزيرة للدراسات يدعو إلى رؤية أفريقية لتجاوز التبعية ...
- مصرع 14 شخصا في فيضانات مفاجئة بالمغرب
- أستراليا تكشف مفاجأة عن مطلقي النار في سيدني: أب وابنه


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عماد الطيب - ابن الحضارة لا يُهزم