عماد الطيب
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 09:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في بلدٍ تُبنى فيه الأوطان بالعمل، اختار العراق أن يحوّل أيامه إلى رزنامة معطّلة، وجدول رسمي من الإيقاف والتوقف والفراغ. صارت العطلة عندنا ليست استثناءً بل قاعدة، وليست ضرورة بل عادة، وليست قرارًا إداريًا بل مزاجًا عامًا تُملِيه “الظروف” التي لا تنتهي، كأن الزمن نفسه أصبح موظفًا عراقياً يخرج بإجازة شهرية ولا يعود إلا ليأخذ إجازة أخرى.
المصيبة ليست في عطلةٍ هنا أو مناسبةٍ هناك… بل في أن الدولة تحوّلت إلى ماكينة معطّلة أكثر منها ماكينة إنتاج. كل قطاع يصرخ: التعليم يذبل، الاقتصاد يتراجع، الخدمات تتعفّن، والمواطن يقف مشلولاً بين مؤسسة مغلقة ومراجعة مؤجلة ومعاملة مُعطّلة. ومع كل إعلان عن عطلة جديدة—“حداد”، “حر شديد”، “برد شديد”، “ازدحام”، “ظرف طارئ”، “مناسبة دينية أو سياسية أو اجتماعية”—نفقد يومًا من عمر الدولة ونضيف خسارة جديدة إلى رصيد الانهيار.
أول أرقام الخسائر تقول إن كل يوم تعطيل رسمي يكلّف الاقتصاد العراقي ما يقارب 150–200 مليون دولار، بين توقف الدوائر، وتعطّل الموانئ والمطارات، وتجميد المعامل، وتعثر المصارف، وإيقاف الشركات الأجنبية، وشلل القطاع الخاص الذي يعتمد على حركة الدولة. أي أننا خلال سنة واحدة من “العطل المتوالية” نخسر مليارات تكفي لبناء عشرات المدارس والمستشفيات والطرق والمشاريع التي ننتظرها منذ عقود.
لكن الخسارة الأكبر ليست مالية فقط… بل خسارة في الثقة. حين تتحوّل الدولة إلى كائن يتعطّل أكثر مما يعمل، فإن رسالة الحكومة للمواطن واضحة: لا تنتظر كثيرًا، ولا تأمل كثيرًا، فنحن لسنا جاهزين لإدارة يوم عمل كامل بلا ذريعة للإغلاق.
هذه الفوضى أنتجت مجتمعًا مستسلِماً لفكرة أن الأمور يمكن تأجيلها دائمًا، وأن الإنجاز ليس ضرورة، وأن الموعد ليس موعدًا بل احتمال. تحوّل المواطن نفسه إلى جزء من دائرة التعطيل، وصار الكسل المؤسساتي عدوى ينتقل من مكتب إلى شارع، ومن دائرة إلى عقل.
نحن لا نحتاج إلى عطلات أقل فحسب… بل نحتاج إلى ثقافة عمل، إلى إحساس بأن اليوم الذي يضيع لا يُعوّض، وأن الدولة التي تُغلِق بابها كثيرًا لا يمكن أن تتقدّم، وأن الأمم لا تُبنى بالنوايا بل بالساعات المتراكمة من العمل الحقيقي.
العراق اليوم لا يُعطّل مؤسساته فقط… بل يُعطّل ذاته.
وإذا بقيت “العطلة” هي السياسة العامة للدولة، فسيأتي يوم نصحو فيه لنكتشف أن كل شيء تعطّل… إلا الانهيار.
#عماد_الطيب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟