أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - مسافات الآمان














المزيد.....

مسافات الآمان


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 01:51
المحور: الادب والفن
    


ليتنا لم نتجاوز مسافات الأمان… ليتنا بقينا صلبين كجبلين يرمقان بعضهما من بعيد، بكبرياء لا يعترف بالحنين، وبمسافة تحفظ لقلوبنا صلابتها، ولأرواحنا تلك البرودة التي تُشبه الموت العادل، لا موت العشق الظالم. ليتنا لم نُشَرِّع نوافذ القلب كي لا تهبّ منها ريحك، ولا يتسرّب دفؤك إلى غرفي الداخلية. فبعض الدفء أشدّ قسوة من البرد، وبعض الاقتراب أشد فتكًا من الغياب، وبعض القلوب حين نفتح لها الستائر تتحول من نعمة إلى جرح مُقيم.
كان يمكن لكل شيء أن يبقى بسيطًا، عابرًا، هادئًا مثل تحية تُقال بلا نبرة، بلا توقّف، بلا ارتجاف. مجرد كلمة تتطاير في الهواء ولا تترك أثرًا، مجرد خطوة خفيفة لا تنغرس في الذاكرة، مجرد نظرة لا تعلّق القلب بشعرة الحنين، ولا تجعل الليل يبدو ضيقًا ثقيلا . لكننا، بتهوّر المُحبين، سمحنا للتفاصيل أن تقتحم ما لا يجب أن يُقتحم، وفتحنا الباب لما كان يجب أن يظل جدارًا.
ليتنا لم نتبادل قصائد الحب… ليتنا لم نُجرِّب ذلك السحر الذي يخرج من الحرف حين يلامس الشعور. ليتنا لم نتذوّق تلك النبرة التي توجع حين تُسعد، وتجرح حين تُلامس الوجدان. كنتُ أعرف أن الشعر خطيئة إذا قيل في غير وقته، وكنتِ تعلمين أن الحرف حين يشتعل بين اثنين لا يطفئه إلا الفقد، لكننا رغم ذلك لعبنا بالنار. كتبنا لبعضنا كأننا نكتب خلاصنا، وكأن النجاة لا تتم إلا بطرفٍ آخر يشبهنا، يحمل وجعًا يشبه وجعنا، ويمتلك لهفةً تشبه عريّ أرواحنا. وقعنا في المصيدة ونحن نبتسم… ولم نعرف أن الحروف، مثل الحرائق، لا تبدأ كبيرة، بل تبدأ شرارة.
ويا ليتنا لم نُرسل نبضًا بين الحروف… يا ليت الرسائل بقيت باردة مثل رسائل الطقس، بلا دفء، بلا انحناءات خجولة، بلا ارتباك يُقرأ بين السطور. لكننا كنا حمقى بما يكفي لنجعل الكلمات تتنفس، ولنعطيها قلوبنا بدل أن نهديها عقولنا. كنا نرسل نبضًا لا يُرى، لكنه يُشعل ليلًا كاملًا، كنا نخبّئ مشاعر كاملة داخل نقاط، ونضع اعترافات صغيرة في علامات تعجب، ونتبادل اشتياقًا مكتومًا في فواصل عابرة. كنا نعطي أكثر مما نملك، ونخسر أكثر مما يجب، ونشتاق بطريقة تجعل الغياب فاجعة.
أيُّ تحية تلك التي كانت عابرة؟ أيُّ لحظة تلك التي خطفتنا؟ أيُّ شعور ذلك الذي بدأ كنسمة وانتهى كعاصفة قلبية؟ ما الذي حدث؟ كيف انفلت الحذر من بين أصابعنا؟ كيف تحوّلت الكلمات، تلك التي ظنناها مجرد حوار، إلى وطنٍ لا نستطيع الخروج منه؟ كيف امتلكت نظرة واحدة قدرة على إسقاط كل دفاعاتي، وجعلتني في لحظة واحدة هشًا أكثر مما يليق برجل عاش عمره متماسكًا؟ كيف استطعتِ أن تُربكي رجولتي بكلمة؟ وكيف استطعتُ أن أخلخل ثباتك بابتسامة؟
ما الذي جعلنا نستسلم؟ أهو التوقيت؟ أم الفراغ الداخلي الذي كان يبحث عن شقّ ينساب منه نور؟ أم أننا كنا نكذب على أنفسنا حين قلنا إننا قادرون على البقاء على مسافة آمنة؟
مسافة الأمان يا عزيزتي ليست سوى كذبة يختبرها القدر، ويفضحها القلب. نحن لم نُخلق محايدين، ولا خُلقت الكلمات عاقلة، ولا خُلقت الأرواح لتقف مثل جنود على حدود العواطف. نحن هشّون أكثر مما ندّعي، وضعفاء أكثر مما نُظهر، وقلوبنا، مهما حاولنا، تنزلق نحو ما يُشبهها. وهكذا انزلقتُ نحوك، وهكذا انزلقتِ نحوي… حتى صرنا اثنين يلهثان في منتصف الطريق، لا قادرين على العودة، ولا قادرين على الوصول. ليتنا لم ندخل تفاصيل ذلك الشعور… لأن التفاصيل قاتلة. التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع الجرح الكبير: نبرة صوت لا تُنسى. ضحكة تلتصق بالذاكرة. اهتمام بسيط يرمم خرابًا عمره سنوات. سؤال في منتصف الليل يُشعل ألف باب من الحنين. ونسمة خفيفة من العطف تجعل القلب يتورّط، تمامًا كما يتورّط العطشان حين يقترب من نبع لا يعرف عمقه.
التفاصيل يا سيدتي تُشبه السّم إن بدا ماءً. تشبه الهواء إن امتلأ بالغبار. تشبه السعادة إن كانت مقدّمة لبداية الانهيار.
ونحن دخلنا التفاصيل حتى الغرق… كأننا نبحث عن نهاية، لا عن بداية. كأن كل شيء فينا كان يُريد أن ينفجر، أن يثور، أن يتحرر من جفاف السنوات التي سبقت. كأننا وجدنا في بعضنا نافذة، ونسينا أن النوافذ قد تكون مصائد، وأن الضوء الذي يطل علينا قد يكون وهمًا مجيدًا، وأن العاطفة التي بدت في أولها خلاصًا… هي نفسها التي ستُصبح ألمًا لا يمكن قتله.
وهكذا… خرجنا من الصمت إلى العاصفة، ومن السلام إلى الاضطراب، ومن المسافة الآمنة إلى حدّ السكين. صرنا نحمل بعضنا بداخلنا بطريقة تقتل، بطريقة لا نعرف كيف ننجو منها، بطريقة تجعل الفقد أشبه بقطع شريان. صرنا حكاية مكتوبة بدم لا بحبر، وبذاكرة لا تمحوها الليالي مهما تعاقبت.
فيا ليتنا… يا ليتنا… يا ليتنا لم نعترف بذلك الشعور. يا ليتنا لم نفتح الطريق لبعضنا. يا ليتنا بقينا غرباء… أو أصدقاء… أو عابرين لا يلتفتون خلفهم.
لكن الحقيقة أن الندم لا يغير شيئًا. ولا الكلمات تعيد الزمن. ولا الأمنيات تعيد المسافات التي خسرناها.
نحن الآن ندفع ثمن لحظة صدق… وثمن كلمة خرجت من القلب بدل اللسان… وثمن شعور لم يكن يجب أن يولد لكنه وُلد مثل طفل عنيد يرفض أن يموت.
ومع ذلك… رغم كل ما كُسر، وكل ما انكسر… هناك شيء في داخلي يقول: إن أجمل الأخطاء تلك التي جعلتنا نرتجف، وأجمل الكوارث تلك التي جعلتنا نشعر أننا أحياء، وأعمق الجراح تلك التي علمتنا أننا نحب أكثر مما نحتمل.
فيا ليتنا لم نبدأ… لكن يا ليتنا لم ننتهِ أيضًا.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيوخٌ تقتل النخوة
- حين يبلغ الرجل ستينه… يسقط القناع الأخير
- اعترافات القلب… وانسحابات الروح
- إعلانات ساذجة في زمن الفوضى الرقمية
- الكوكايين السلوكي: كيف نحمي جيلنا من الهاوية الرقمية؟-
- كل الغياب يعود الا انت
- دعينا نلتقي
- انتم الخراب الذي يمشي على قدمين
- رفض تاريخي آخر: لماذا تبتعد المرجعية عن لعبة الكراسي؟
- ماض لن يعود .. كوجه جميل غادره الضوء
- أحملك بقلبي وأدفنك بصمتي
- جمال الموت
- أجمل المحطات
- دروع الإبداع… حين صار الوهم أعلى من الحقيقة
- جريح الثقة لا يُشفى
- لا تمنح الحقيقة كاملة .. انهم لن يفهموك !!
- بين الثائر والطاغي شعرة
- لقد كانت معركة عظيمة كلفتني قلبًا بأكمله
- ظل الآخر
- قلب مسافر عاشق


المزيد.....




- فيلم -أوسكار: عودة الماموث-.. قفزة نوعية بالسينما المصرية أم ...
- أنغام في حضن الأهرامات والعرض الأول لفيلم -الست- يحظى بأصداء ...
- لعبة التماثيل
- لماذا يا سيدي تجعل النور ظلاماً؟
- نشطاء يريدون حماية -خشب البرازيل-.. لماذا يشعر الموسيقيون با ...
- -ماء ونار-.. ذاكرة الحرب اللبنانية في مواجهة اللغة وأدوات ال ...
- أردوغان يستقبل المخرج الفلسطيني باسل عدرا الفائز بأوسكار
- توقيع اتفاق للتعاون السينمائي بين إيران وتركيا
- تسرب مياه في متحف اللوفر يتلف مئات الكتب بقسم الآثار المصرية ...
- إطلالة على ثقافة الصحة النفسية في مجتمعنا


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - مسافات الآمان