أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عماد الطيب - الاعلام الحربي الناعم















المزيد.....

الاعلام الحربي الناعم


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 13:53
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


توقّفتُ طويلًا أمام تلك المقاطع التي تُشعل الفضاء الافتراضي: امرأة تُفاجَأ بعودة حبيبها من الحرب، تركض نحوه باكية، تلتصق به كما لو أنها تعيد الحياة إلى صدرٍ مات، والصورة تتكرر ولكن لأشخاص آخرين وجنود أمريكيين . والجمهور خلف الشاشات يغرق في الدموع. لحظات مصوغة بعناية، موسيقى مؤثرة ، كاميرا ثابتة، وابتسامـة جندي عاد من “الموت”. مشهد مُتقن، مؤثر… لكنه ناقص، وناقص حدّ الفجيعة.
فالفرح الذي يظهر على الشاشة هو نصف القصة فقط؛ والنصف الآخر يُطمَر تحت ركام البيوت، وصمت المقابر، ودموع أمهاتٍ لم تلتفت إليهن عدسات هوليوود. إنه الفرح الذي لا يكتمل إلا إذا نسيَ المشاهدُ من مات لكي يعود هذا الجندي حيًّا.
أية دموع تلك التي تُستدرّ؟ دموع زوجةٍ عانقت رجلاً خرج ليحمل في يديه سلاحًا صنعَه آخرون لقتل بشر لم يهاجموه، لم يحاصروا وطنه، ولم يعبروا محيطات ليصلوا إلى بيته. دموع تُصوَّر بدقة، وتُمنتج، وتُنشر، لتقول للعالم: “انظروا! هذا جندي عاد من الحرب… ارحموه”. لكن من يرحم الأطفال الذين عادوا من الحرب بلا رؤوس؟ من يرحم الأمهات اللواتي لم يعد إليهن أحد؟ من يرحم المدن التي صارت أطلالًا لأن جنديًا مثل هذا كان يبحث عن “عدو” في كل نافذة؟ الاحتفال بعودة الجندي يشبه الاحتفال بعودة السكين بعد أن أنهت مهمتها. السكين تبقى جميلة عند من أمسكها… أما عند من غُرِست فيهم، فلا تُرى إلا كفاجعة.
الحقيقة التي يحاول الإعلام دفنها أن تلك اللحظات العاطفية ليست عفوية. هي جزء من ماكينة ضخمة تُلمّع الحرب، تصنع بطولةً من الغزو، وتمنح الجندي هالة “الشجاع” الذي “ضحّى”. تضحية بمن؟ بأحلام من؟ بأوطان من؟
كيف يمكن أن يُصنع الفرح من رماد شعب؟ كيف تُنسج قبلة في مطار بينما على الطرف الآخر من العالم يتصاعد دخان منازل هدمتها القذائف التي حملت اسم هذا الجندي؟
إن صورة الجندي العائد هي وجه واحد لعملة قاتلة؛ أما الوجه الآخر فهو طفلٌ يرفع يديه، امرأة تُخرج ابنها من تحت الركام، مدينة تُسحب جثثها من بين الغبار. لا أحد يصوّر تلك العودة… لأنها ليست قابلة للبثّ ولا تجلب التعاطف المناسب للسردية المطلوبة. والمؤلم أكثر أن هذا الفرح الذي نراه لا يُخفي دمًا فقط… بل يحتفل به. ففرح الجندي بعودته يعني ضمنيًا أن مهمته “اكتملت”، وأن رصاصه وصل، وأن الصاروخ فعل ما عليه، وأن الأرض التي قاتل فوقها تركها بلا ملامح. حتى ابتسامته هي في جوهرها ابتسامةٌ فوق قبور الآخرين. هناك قهرٌ لا يُحتمل في رؤية من دمّر حياة ملايين البشر وهو يُستقبل كالقديس. هناك قسوةٌ في أن يتحوّل الغزو إلى فيديو مؤثر، والقتل إلى محتوى “يلمس القلب”. أي قلب؟ القلب الذي عجز عن رؤية الدماء لكنه انكسر لعودة من سفكها؟
هذا على الصعيد الإنساني اما التحليل الإعلامي لهكذا صور تعمل تلك المقاطع التي تُظهر لحظات عودة الجندي الأميركي إلى زوجته أو طفلته وكأنها لقطات عفوية على بناء سردية إعلامية مُحكمة تخدم أهدافًا تتجاوز المشهد العاطفي نفسه بكثير. فالدموع التي تراها الزوجة وهي تركض لتحتضن زوجها لا تُقدَّم كحدث إنساني بريء، بل كأداة اتصالية ناعمة تهدف إلى إعادة صياغة صورة الجندي في وعي الجمهور، ونزع أي ارتباط ذهني بينه وبين الخراب الذي خلّفه في أماكن لم يسمع باسمها قبل إرساله إليها. فالمشهد يُصوَّر بدقة، يُمنتج بعناية، ويُوزَّع بشكل واسع ليُثير شعورًا واحدًا: هذا الجندي “بشر” يستحق التعاطف، وهذا يكفي ليغطي على حقيقة أنه كان جزءًا من آلة عسكرية عبرت المحيطات لتحمل الموت لا الرحمة.
في تلك اللقطات تتجلى واحدة من أخطر أدوات الإعلام الحربي الناعم، حيث يتم استخدام العاطفة بدل السياسة، واللقطة المؤثرة بدل الوقائع. فالكاميرا تهتم بدمعة زوجة، ولا تهتم بركام مدينة سويت بالأرض. تُظهر حضنًا واحدًا، وتتجاهل آلاف الأحضان التي فُقدت إلى الأبد. وهكذا يتحول الجندي من فاعل عسكري مسلح إلى زوج مشتاق يعود إلى منزله، ويتحوّل الغزو إلى “مهمة”، ويتحوّل الاحتلال إلى “تضحية”، ويصبح السؤال اللاذع: من الذي فقد حياته لكي يعود هذا الرجل إلى عائلته حيًا؟
ما يحدث هنا هو تلاعب متقن بالانحياز العاطفي؛ فالإعلام يدرك أن دمعة واحدة أمام الكاميرا أقوى من ألف شهادة على جرائم الحرب. لذلك تصنع تلك المقاطع انطباعًا يُراد له أن يستقر في لاوعي المشاهد: الجندي طيب، حساس، مُحب، يستحق الفرح. وبذلك يتم فصل صورته عن دوره الحقيقي في أماكن لم تُعرض شوارعها المحروقة يومًا في نشرات الأخبار. يتم خلق “إنسانية” مزيّفة تُستخدم ليس لحماية الجندي من صدمة الحرب، بل لحماية المؤسسة العسكرية من مساءلة الشعوب.
وبينما تنتشر تلك المقاطع في العالم، تعمل ببطء على خفض حدّة الغضب تجاه السياسات الخارجية، وتحويل النقاش من “ماذا فعل جيشنا؟” إلى “مسكين… كم عانى بعيدًا عن عائلته!”. هكذا تُخفى الجريمة تحت عباءة الحنان، ويُستبدل السؤال الأخلاقي بسؤال عاطفي. ومن خلال هذا التحويل تُعاد شرعنة الحروب؛ إذ إن التعاطف مع الجندي يتحول تلقائيًا إلى قبولٍ لما فعله، وإلى تبريرٍ غير مباشر لوجوده في أرض ليست أرضه.
والأخطر أن هذا المحتوى ليس مصادفة؛ بل إنتاج مقصود يخضع لقواعد التأطير الإعلامي التي تختار ما يجب أن يظهر وما يجب أن يُمحى من الذاكرة الجمعية. الفرح يُعرض، الألم يُخفى. العناق يُوثّق، الدمار يُلغى. وهذه هي القسوة الأكبر في تلك اللقطات: ليست أنها تُظهر فرحًا، بل أنها تُظهره وحده. ليست أنها تُعيد جنديًا إلى حياته، بل أنها تمحو حياة من لم يعودوا.
في النهاية تبدو تلك المقاطع كجرعة مخدرة تُعطى للمشاهد كي لا يرى الحرب كما هي، بل كما يريد المنتجون أن يراها: رحلة مؤلمة تنتهي بفرح مؤثر، لا عملية عسكرية دمّرت حياة آلاف الأبرياء. إنّها دعاية مغلفة بالحب، وبروباغندا ترتدي ثوب الحنين، ومشهد مُعدّ لإقناع العالم بأن الجندي يستحق العناق… حتى لو كان قد ترك خلفه بلدًا كاملًا لا يجد أحدًا ليعانقه.
إن العالم الذي يشاهد هذه المقاطع ويبكي معها، هو ذاته العالم الذي لا يهتزّ حين يرى صور أطفال العرب يُحملون كأشلاء، ولا حين يسمع أمهات يفقدن أبناءهن واحدًا تلو الآخر.
الدم العربي لا يحتل ترندًا. والشهداء لا يعودون إلى بيوتهم مع موسيقى هادئة. ولا يوجد جنودٌ يركضون نحوهم ويعانقونهم أمام الكاميرات. عندنا… العودة الوحيدة هي عودة الجسد بلا رأس، أو الروح بلا جسد.
لذلك، حين تتوقف أمام تلك المقاطع وتبكي النساء لعودة أزواجهن، تذكّر أن خلف كل حضن منهم هناك حضنٌ آخر ما زال مفتوحًا ينتظر من لن يعود. وأن خلف كل دمعة فرح، دماء لا تُغسل، ووطن لا يجبره الزمن.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبث العطاء في عالم بلا جذور
- وهم المكانة وحقيقة الآخر
- عراقٌ مُعَطَّل
- حين تمطر… يغرق الوطن في قطرة
- لستُ بخير
- مسافات الآمان
- شيوخٌ تقتل النخوة
- حين يبلغ الرجل ستينه… يسقط القناع الأخير
- الحرية في جناح عصفور
- اعترافات القلب… وانسحابات الروح
- إعلانات ساذجة في زمن الفوضى الرقمية
- الكوكايين السلوكي: كيف نحمي جيلنا من الهاوية الرقمية؟-
- كل الغياب يعود الا انت
- دعينا نلتقي
- انتم الخراب الذي يمشي على قدمين
- رفض تاريخي آخر: لماذا تبتعد المرجعية عن لعبة الكراسي؟
- ماض لن يعود .. كوجه جميل غادره الضوء
- أحملك بقلبي وأدفنك بصمتي
- جمال الموت
- أجمل المحطات


المزيد.....




- هل ستصادر أمريكا المزيد من أصول النفط الفنزويلية؟.. ترامب ير ...
- بيانات ملاحية تكشف تحركات عسكرية.. ما الذي يجري قبالة الساحل ...
- ظهور ترامب وكلينتون وغيتس في مجموعة جديدة من صور إبستين
- مصادر لرويترز: أميركا حجبت معلومات مخابرات عن إسرائيل خلال ع ...
- أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن
- عون: تطور العلاقات مع سوريا -بطيء-.. وجاهزون لترسيم الحدود
- اليمن.. القوات المسلحة الجنوبية تطلق -عملية الحسم- في أبين
- ترامب: غزو أوكرانيا -يشبه- فوز أمريكا في مباراة الهوكي -معجز ...
- ماذا قال ترامب عن ظهوره في صور جيفري إبستين؟
- إسرائيل تواصل خنق غزة بمنع المساعدات


المزيد.....

- كتاب : العولمة وآثارها على الوضع الدولي والعربي / غازي الصوراني
- نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي ... / زهير الخويلدي
- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عماد الطيب - الاعلام الحربي الناعم