أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - عودة الشخص الآخر… عودة الحياة بطعم العتاب














المزيد.....

عودة الشخص الآخر… عودة الحياة بطعم العتاب


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 08:36
المحور: الادب والفن
    


ليست عودة الشخص الآخر حدثًا عابرًا في روزنامة الذاكرة، بل زلزالًا هادئًا يعيد ترتيب الداخل من دون ضجيج. إنها تلك اللحظة التي لا تطرق فيها العودة الباب، بل تدخل مباشرة إلى أعمق نقطة في الروح، وتجلس هناك كما لو أنها لم تغادر يومًا. يعود، فتعود الحياة متأخرة خطوة، مترددة، كمن يخشى أن يُساء استقباله بعد غياب طويل.
العودة لا تشبه اللقاء الأول، فالأول كان مغمورًا بالدهشة والبراءة، أما هذه فمثقلة بالحسابات، مشبعة بالأسئلة، محاطة بأسوار من الصمت المتحفّظ. يعود الشخص الآخر وقد تغيّر اسمه في الداخل؛ لم يعد مجرد شخص، صار زمنًا كاملًا كان مفقودًا، وصار احتمالًا مؤجلًا، وصار جرحًا تعلّم كيف يتخفّى. وكان ذاكرة مثقوبة . ومع ذلك، يكفي حضوره كي تستعيد الحياة نبضها القديم، ذلك النبض الذي كنا نظنه وهمًا أو ذكرى مُبالغًا في جمالها. ولكن ظل النبض يحتفظ بمسيره الهاديء .
تعود الحياة لا لأن الأشياء تحسّنت، بل لأن المعنى عاد. المعنى الذي كان غائبًا خلف أيام متشابهة، خلف ضحكات بلا صدى، خلف محاولات فاشلة لإقناع النفس بأن الغياب يمكن التعايش معه. حين يعود، نكتشف أن الحياة كانت تمشي على قدم واحدة، وأن كل ما فعلناه كان تعويضًا ذكيًا عن نقص لا يُعوّض. نبتسم، نعم، لكن الابتسامة هذه المرة ليست بريئة؛ إنها ابتسامة من يعرف الثمن، ومن يتذكر الفاتورة التي لم تُدفع يوم الرحيل.
أما العتاب، فهو الطعم الحقيقي لهذه العودة. ليس عتابًا صاخبًا ولا خطبًا طويلة، بل عتاب يشبه الملح: قليل منه يكشف النكهة، وكثيره يفسد كل شيء. عتاب يُقال بالعين أكثر مما يُقال بالكلام، ويُكتب في المسافات الصغيرة بين الجمل. هو سؤال غير منطوق: لماذا الآن؟ ولماذا بعد كل هذا الوقت؟ وهو أيضًا اعتراف صامت بأن الغياب لم يكن بلا أثر، وأننا لم نخرج منه كما دخلناه.
في العتاب نكتشف نضجنا القاسي. لم نعد نعاتب كي نغيّر الآخر، بل كي نُثبت لأنفسنا أننا كنّا هنا، أننا انتظرنا، أننا تألمنا دون أن نصرخ. العتاب يصبح شكلًا من أشكال الكرامة، وحدًا أخيرًا نرسمه بين ما كان وما لن يكون. إنه محاولة لترميم ما يمكن ترميمه دون خداع النفس بأن كل شيء سيعود كما كان.
العودة تُربك التوازن الهش الذي بنيناه في الغياب. تعيد فتح نوافذ أغلقناها عمدًا، وتوقظ مشاعر اعتقدنا أننا دفناها بوعي. فجأة، تتكلم الذاكرة بصوت عالٍ، وتخرج التفاصيل الصغيرة من مخابئها: عبارة ملغومة ، عادة قديمة، كلمة كانت كافية لتغيير يوم كامل. ندرك حينها أن النسيان لم يكن شفاءً، بل هدنة مؤقتة.
ومع ذلك، لا تكون العودة دائمًا وعدًا بالاستمرار. أحيانًا تكون مجرد زيارة أخيرة للمعنى، تأكيدًا نهائيًا أن ما جمعنا كان حقيقيًا، وأن ما فرّقنا كان أكبر من قدرتنا على الاحتمال. أحيانًا تأتي العودة لا لتبدأ من جديد، بل لتُغلق الدائرة بشكل إنساني، أقل قسوة، أقل التباسًا.
ننظر إلى الشخص العائد فنرى نسختين: نسخة نحبها كما هي، ونسخة نلومها لأنها لم تكن حين احتجناها. هذا التناقض هو جوهر العتاب، وهو سر شفافيته المؤلمة. لا نريد أن نخسر من جديد، ولا نملك الشجاعة الكاملة للثقة. نقف في المنتصف، نجرّب الحياة بحذر، كما يُجرّب المرء أرضًا تعرّضت لزلزال.
في النهاية، عودة الشخص الآخر تعلّمنا درسًا متأخرًا: أن الحياة لا تعود كاملة أبدًا، لكنها تعود أكثر صدقًا. وأن العتاب ليس عدو الحب، بل دليله الأخير. وأن بعض الأشخاص حين يعودون، يعيدون إلينا أنفسنا التي كدنا نفقدها، حتى لو لم يبقوا طويلًا.
هكذا تكون العودة: حياة تُستعاد بنبض أبطأ، وبحكمة أثقل، وبطعم عتاب لا يُفسدها، بل يجعلها حقيقية بما يكفي لنحترمها، وبما يكفي لنتركها تمضي إن أرادت، دون أن نكذب على قلوبنا مرة أخرى.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إمرأة من خيال
- همسة تصل… فتُزهر الروح
- الإنسان بعد انتهاء صلاحيته: قراءة في عنف التصنيف
- منحة المثقفين في ميزان التسليع: حين تُقاس الثقافة بفتات المو ...
- الشتيمة كفشل ثقافي: لماذا نُهين الصبر والوفاء؟
- صورة واحدة تكشف صدق الحوارات
- الهاتف… اليد الثالثة التي أطاحت بشخصية الشباب
- ابن الحضارة لا يُهزم
- أصعب اشتياق
- أصدقاء مرّوا… فصاروا وطناً
- حب يفيض على صدر يخشى الندى
- المرأة الأخرى
- الإنسان الأخير في زمن الخراب الناعم
- الاعلام الحربي الناعم
- عبث العطاء في عالم بلا جذور
- وهم المكانة وحقيقة الآخر
- عراقٌ مُعَطَّل
- حين تمطر… يغرق الوطن في قطرة
- لستُ بخير
- مسافات الآمان


المزيد.....




- الموسيقى تقلل توتر حديثي الولادة وذويهم في غرف الرعاية المرك ...
- من الجبر إلى التعرفة الجمركية.. تعرف على كلمات عربية استوطنت ...
- بوتين: أوكرانيا غير مستعدة للسلام.. وزيلينسكي فنان موهوب
- قراءة في كتاب المؤرخ إيلان بابيه.. إسرائيل على حافة الهاوية ...
- نادين قانصوه...مجوهرات تتحدث اللغة العربية بروح معاصرة
- الشرطة تفتش منزل ومكتب وزيرة الثقافة الفرنسية في تحقيق فساد ...
- من فلسطين الى العراق..أفلام لعربية تطرق أبواب الأوسكار بقوة ...
- فيلم -صوت هند رجب- يستعد للعرض في 167 دار سينما بالوطن العرب ...
- شوقي عبد الأمير: اللغة العربية هي الحصن الأخير لحماية الوجود ...
- ماذا يعني انتقال بث حفل الأوسكار إلى يوتيوب؟


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - عودة الشخص الآخر… عودة الحياة بطعم العتاب