أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عادل الدول - الحسد: رحلة الشعور الأزلي من الأسطورة إلى الخوارزمية















المزيد.....

الحسد: رحلة الشعور الأزلي من الأسطورة إلى الخوارزمية


عادل الدول
كاتب

(Adil Al Dool)


الحوار المتمدن-العدد: 8543 - 2025 / 12 / 1 - 08:24
المحور: قضايا ثقافية
    


يمتد الحسد في أعماق الروح البشرية كخيط خفي لا ينقطع، يشدّ الإنسان إلى مرآة مؤلمة تعكس نقصه المتوهّم أمام اكتمال الآخر المتخيّل. وعلى مدى آلاف السنين، لم يكن هذا الشعور مجرد انفعال عابر يمكن حصره في لحظة ضعف أو هفوة نفسية، بل كان ولا يزال بنية معقدة تتقاطع فيها الأسطورة بالدين، والأخلاق بعلم النفس، والطقوس بالتحليل العلمي، حتى غدا الحسد واحدًا من أكثر الظواهر الإنسانية ثراءً ومراوغةً في آن.
في زمن كانت فيه الحضارات الأولى تبحث عن تفسير لما يعتمل في الصدور، لجأت إلى عالم الرمز والأسطورة لتفكّ طلاسم هذا الشعور الغامض. فالمصريون القدماء، الذين وقفوا أمام النيل يتأملون أسرار الحياة والموت، رأوا في "عين الحاسد" قوة خفية تخترق الحجب وتلحق الأذى بمن تقع عليه، فصاغوا من هذا الإيمان تمائم وتعاويذ، أشهرها عين حورس التي تحرس وتحمي. ولم يكن اليونانيون القدماء أقل انشغالًا بهذا اللغز، إذ منحوه اسمًا في لغتهم، "فثونوس"، وجعلوه رمزًا للاختلال الكوني الذي ينشأ حين يتجاوز الإنسان حدوده أو تصيبه نعمة مفرطة تثير حفيظة الآلهة والبشر معًا. أما الرومان فقد اشتقوا من هذا الشعور كلمة "إنفيديا"، التي تحولت عبر العصور إلى المصطلح الإنجليزي الشائع، واعتبروها إحدى الرذائل السبع التي تنخر في الروح قبل أن تمتد لتدمير الآخر.
وفي قلب التراث الديني، احتل الحسد موقعًا مركزيًا بوصفه الخطيئة التي لا تُغتفر بسهولة، ففي قصة قابيل وهابيل تتجلى أولى صور الحسد القاتل، ذلك الشعور المظلم الذي تحول من غليان داخلي إلى فعل دموي أنهى حياة الأخ على يد أخيه. وفي الأناجيل، يصف المسيح الحسد بـ"العين الشريرة" التي تعمي البصيرة وتحجب النور عن القلب. وامتدت هذه الرؤية إلى الثقافات الشعبية اليهودية والمسيحية، حيث انتشرت طقوس الحماية والتمائم التي تحرس صاحبها من نظرات الحاسدين وأرواحهم المضطربة.
وعلى الجانب الآخر من العالم، في الثقافات الآسيوية والأفريقية، أخذ الحسد أبعادًا روحية واجتماعية أخرى، إذ ربطته الهند بمفهوم الكارما وتلوث المسار الروحي، بينما رأت فيه المجتمعات الأفريقية جنوب الصحراء أحد مصادر السحر الأسود، مما دفعها إلى ابتكار أنظمة اجتماعية دقيقة تحدد ما يجب إظهاره من الثروة وما يجب إخفاؤه، في محاولة للحفاظ على توازن هش بين النجاح الفردي والسلام الجماعي.
في القرآن الكريم، يتخذ الحسد صورة مزدوجة تجمع بين الشر الكامن في النفس والخطر المحدق من الخارج. ففي سورة الفلق، تأتي الاستعاذة من "شر حاسد إذا حسد" لتشير إلى تلك اللحظة الحرجة التي يتحول فيها الشعور الباطني إلى فعل ظاهر، وفي قصة يوسف عليه السلام يتجلى الحسد محركًا مركزيًا للتآمر والعنف داخل الأسرة الواحدة. وقد ميّز الفقهاء والمفسرون بدقة بين الحسد الذي هو تمني زوال النعمة عن الآخر، والغبطة التي هي تمني الحصول على مثل ما لديه دون أن يزول عنه، فوضعوا بذلك حدًا فاصلًا بين المرض النفسي والطموح المشروع.
غير أن بعض القراءات المعاصرة للنص القرآني ذهبت إلى أبعد من ذلك، محاولة استكشاف البعد الرمزي والنفسي للحسد، فرأت أن "الحاسد" قد يكون إشارة إلى القوى الداخلية المدمرة في نفس الإنسان ذاته، لا مجرد شخص خارجي يتربص به، وأن "العين" قد تكون استعارة بليغة للطاقة النفسية السلبية التي تنتقل عبر شبكة العلاقات الإنسانية المعقدة، وبهذا تصبح الاستعاذة في سورة الفلق دعوة لحماية الذات من اضطراباتها الباطنية بقدر ما هي حماية من الشر المحيط.
وحين جاء علم النفس الحديث، بأدواته التحليلية وعدساته الدقيقة، نظر إلى الحسد كظاهرة إنسانية قابلة للفهم والتفسير بعيدًا عن الأسطرة. فميلاني كلاين، رائدة التحليل النفسي للأطفال، أرجعت جذور الحسد إلى الطفولة المبكرة، حين يبدأ الطفل بمقارنة نفسه بمصدر الرعاية وبالآخرين من حوله، فتتشكل لديه مشاعر معقدة من الحرمان والرغبة والغيرة. أما المفكر الفرنسي رينيه جيرار فقد طرح نظرية "الرغبة المحاكية"، مشيرًا إلى أننا لا نريد الأشياء لذاتها، بل لأن الآخرين يريدونها، وبهذا يصبح الحسد نتيجة حتمية لتقليد رغبات الآخرين وسلوكياتهم.
والحسد، في رؤية علم النفس المعاصر، لا يعيش في فراغ، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشعور بالنقص وهشاشة الهوية وانعدام الأمان الداخلي. وقد يتخذ أشكالًا متعددة، من العدوان السلبي الذي يتجلى في الإشاعة وتشويه السمعة والتجاهل المتعمد لنجاحات الآخرين، إلى جلد الذات القاسي الذي يجعل الحاسد يسأل نفسه في لحظات الظلام: لماذا ليس لدي ما لدى الآخرين؟ وقد يصل الأمر إلى تجميد الطموح والخوف من المقارنة، فيعيش الإنسان في قفص من صنعه، يحرس نفسه من الخروج لئلا يُكشف نقصه أو يُقارن بغيره.
لكن المفارقة الكبرى أن المحسود نفسه لا يسلم من المعاناة، فهو يحمل عبئًا غير مرئي يتمثل في الشعور بالذنب تجاه نجاحه، والخوف من إثارة حسد الآخرين، والميل إلى إخفاء الإنجاز في بيئات تقدس "التواضع القاتل". وفي كثير من المجتمعات، يتحول النجاح ذاته إلى حمل ثقيل يحتاج صاحبه إلى إدارة اجتماعية بالغة الدقة، فيمشي على حبل رفيع بين الفخر المشروع والتبجح الذي يثير الحفيظة.
ومع تقدم البحث العلمي، بدأ علماء النفس يفرقون بين نوعين من الحسد: الحسد الأخضر الذي يدفع صاحبه إلى التطوير الذاتي ويقترن بالإعجاب والتنافس الصحي، والحسد الأسود الذي يدفع إلى تدمير الآخر رمزيًا أو اجتماعيًا ويقترن بالغضب والحقد. وهذا التفريق ينقل الحسد من كونه رذيلة مطلقة إلى كونه طاقة يمكن، بالوعي والإرادة، توجيهها في المسار الصحيح.
وكشفت دراسات علم الأعصاب الحديثة أن رؤية نجاح الآخرين تنشط مناطق الألم في الدماغ، وهو ما يفسر لماذا نشعر بوخز حقيقي حين نسمع بترقية زميل أو نجاح صديق. وفي بيئات العمل، تؤدي المقارنات المستمرة إلى صراع داخلي يقلل من التعاون ويزيد من التوتر، بينما في منصات التواصل الاجتماعي تتضخم ديناميات الحسد بشكل غير مسبوق، إذ يواجه المستخدمون "الصور المنقحة" لحياة الآخرين على مدار الساعة، مما يزيد معدلات القلق والاكتئاب بشكل ملحوظ.
ومع دخول البشرية عصر الذكاء الاصطناعي، دخل الحسد مرحلة جديدة من التعقيد، إذ لم يعد الإنسان يحسد أخاه أو جاره فقط، بل أصبح يواجه نوعًا جديدًا من المنافسة مع الآلة ذاتها. فالشبكات الاجتماعية، بما تتيحه من تدفق مستمر للمعلومات البصرية والمهنية في الزمن الحقيقي، خلقت بيئة مثالية لصناعة الحسد، حيث نجاحات الآخرين معروضة أمامنا على مدار الساعة، بل إن الخوارزميات نفسها تعمل على تضخيم هذه المقارنات من خلال انتقاء ما يُعرض وما يُخفى.
وبدأ يظهر ما يمكن تسميته بـ"الحسد الوجودي"، ذلك الشعور الغريب تجاه الذكاء الاصطناعي الذي يتفوق على الإنسان في الكتابة والإبداع والحساب وحتى في بعض أشكال التفكير. إنه حسد موجه ليس إلى بشر، بل إلى كيان ذكي ينافس على دور الإنسان ذاته في العالم، ويثير أسئلة وجودية عن القيمة والمعنى والهدف. وفي بعض السياقات، تحصل الآلة على اهتمام واعتراف يفوق ما يحصل عليه الإنسان، مما يعمق الشعور بالتهميش والخوف من الإقصاء.
والذكاء الاصطناعي، رغم أنه لا يشعر بالحسد، إلا أنه أصبح مرآة عملاقة تعكس حسد البشر وتكبّره، ومنصة تضاعف التوترات الاجتماعية من خلال إتاحة نوافذ لا محدودة على ما يمتلكه الآخرون من متابعين وإنجازات وشهرة رقمية. وفي بيئات العمل المستقبلية، يتوقع الباحثون أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى إعادة تعريف جذرية لمفهوم المنافسة المهنية، وزيادة حادة في المقارنات بين قدرات الإنسان والآلة، مما قد ينتج شكلًا جديدًا من الحسد الاجتماعي يتخذ صورة الخوف من الاستبدال والإقصاء الوظيفي.
لكن الحل، كما تشير الآية الكريمة "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، يكمن في إعادة بناء علاقتنا بالنعمة ذاتها، بأن ننظر إليها لا كساحة صراع ضيقة يربح فيها واحد ويخسر الآخرون، بل كمساحة مشتركة يتسع فيها المجال للجميع. ويقترح علماء النفس المعاصرون استراتيجيات عملية للتعامل مع الحسد، تبدأ بإعادة تشكيل الذات وتقليل المقارنة الاجتماعية، وتعزيز الشعور بالاستحقاق الداخلي، والتدريب على الامتنان الذي يخفض مستوى الشعور بالنقص ويفتح أبواب الرضا.
الحسد، إذن، ليس ظاهرة طارئة يمكن تجاوزها بسهولة، بل هو حضور عميق في الوعي الإنساني منذ أقدم الأساطير إلى أحدث الخوارزميات. وعبر آلاف السنين، تنوعت مقاربات الحضارات له بين السحر والأسطورة، والوعظ الديني، والتحليل الروحي، والتفكيك النفسي، وصولًا إلى الرؤية العلمية المعاصرة. وفي زمننا الراهن، لم يتغير الحسد في جوهره، بل تغيرت فقط سرعته واتساع دائرة منافسيه، فأصبح الإنسان يحسد صورة رقمية، أو إنجازًا افتراضيًا، أو حتى قدرة آلية. ومع ذلك، يبقى الحسد قابلًا للمداواة حين يتحول الإنسان من المقارنة إلى الاكتفاء، ومن النزاع إلى التعاون، ومن النظر إلى ما عند الآخرين إلى التأمل في قيمته الداخلية وما يستطيع أن يقدمه للعالم من حوله.



#عادل_الدول (هاشتاغ)       Adil_Al_Dool#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنت والحظ: حين تنحرف المعادلة عن قوانينها
- المأزق الثقافي العربي: بين العجز والنهوض
- الألم... ميلادٌ لا ينتهي
- العصر الأسود: أغنية الشاشات المغلقة
- العراق: هشاشة الدولة وأزمة الهوية الوطنية
- سجون عقولنا غير المرئية: كيف تُديرنا معتقدات الطفولة القديمة ...
- التغيير الإيجابي والمستدام: في معنى التكيّف الهوياتي
- البشتون وإسرائيل: بين الأسطورة التوراتية وأدوات المشروع السي ...
- عندما يُشلّنا الخوف من الخطأ: من تبرير النية إلى امتلاك الأث ...
- هل يحتاج العالم العربي إلى ديمقراطية... أم إلى رؤية جديدة لد ...
- قانون جانتي: يُقلّل من الحسد الطبقي، ويُعزّز التماسك الاجتما ...
- هوليوود تُعيد كتابة سرديّتها: حين يكسر النجوم صمتهم عن فلسطي ...
- التسامح مع عدم اليقين
- الإنسان في عصر البيانات الرقمية: بين الوعي والسيطرة
- يطير الملفوظ... ويبقى المكتوب
- الجذور في الجحيم: في معنى المعاناة كطريقٍ للتحول
- الوساطة منهج فكري وثقافة مؤسسية
- مؤشر مايرز بريجز للأنماط (MBTI) و 16 نوعاً من الشخصية
- تعلم مهارات التعاطف والشفقة على الذات في المدرسة
- بين الطابور والطيران: مأزق الذات بين الأمان المُقنَّن والحري ...


المزيد.....




- بعد مكالمة ترامب.. الرئيس الفنزويلي مادورو يظهر علنا منهيا ت ...
- زوجان حققا 600 ألف دولار من الاحتيال في كازينو أسترالي، كيف ...
- حان الوقت للانغماس الكامل وبدء مرحلة الشتاء الخاصة بك
- أميركا تطوّر قنبلة جديدة خارقة للتحصينات.. لماذا الآن؟
- ترامب يجري اتصالا مع مادورو وسط تصاعد الضغط الأمريكي على فنز ...
- رامابوزا يعتبر تصريحات ترامب بخصوص استهداف البيض في جنوب أفر ...
- الجيش الأميركي يعلن تنفيذ عملية ضد تنظيم الدولة بالتعاون مع ...
- الجيش واتهامات الكيماوي.. هل تجاوز البرهان الخط الأحمر؟
- ترامب يكشف فرص التوصل لاتفاق بين روسيا وأوكرانيا
- رغم ضربات الكاريبي.. ترامب يجري اتصالا مع نيكولاس مادورو


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عادل الدول - الحسد: رحلة الشعور الأزلي من الأسطورة إلى الخوارزمية