أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - عادل الدول - الجذور في الجحيم: في معنى المعاناة كطريقٍ للتحول














المزيد.....

الجذور في الجحيم: في معنى المعاناة كطريقٍ للتحول


عادل الدول
كاتب

(Adil Al Dool)


الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 23:37
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


"لا يمكن لأي شجرة أن تنمو إلى السماء ما لم تصل جذورها إلى الجحيم."
— كارل يونغ

هذا الاقتباس، الذي يبدو في ظاهره صورة بلاغية بسيطة، يحمل في طيّاته فلسفةً وجودية عميقة حول طبيعة النمو البشري. فهو لا يصف نمو الشجرة فحسب، بل يرسم خريطة روحية للتحول الداخلي: فالارتفاع نحو النور لا يتحقق إلا بعد أن تغوص الجذور في الظلام، وتتغذّى من التراب الذي نهرب منه، وتمتصّ قوّتها من ما نُسمّيه "الجحيم الشخصي". فالنموّ وعدم الراحة متلازمان. ولا يمكنك بلوغ ذاتك العليا دون مواجهة ذاتك الأكثر ظلمةً.

في عالمٍ يُقدّس السعادة كغايةٍ نهائية، ويُصوّر الألم كعَارٍ يجب إخفاؤه أو تجنّبه، يُقدّم يونغ رؤية معاكسة تمامًا: الألم ليس عائقًا، بل مادة بناء. والمعاناة ليست فشلًا، بل دعوةٌ داخلية للتحول. فكل نمو حقيقي، كل بلوغ لذاتٍ أعلى، يمرّ حتمًا عبر مواجهة الذات الظلامية — تلك الزاوية من النفس التي نرفض الاعتراف بها، ونُنكر وجودها، ونُطلق عليها أسماء مثل: الخوف، العار، الغضب، أو حتى "الجنون".

ثنائية الوجود: بين النور والظلام
يُصرّح يونغ بأن "كل الحياة هي ثنائية". لا وجود لفرحٍ دون حزن، ولا حبّ دون فُقدان، ولا قوة دون ضعف سابق. هذه الثنائية ليست تناقضًا يجب حله، بل توازنٌ يجب الحفاظ عليه. فالشجرة التي تُزرع في تربة معقّمة، خالية من التعقيد والفساد، قد تبدو نظيفة، لكنها هشّة. لن تصمد أمام عاصفة، ولن تمتدّ جذورها بما يكفي لتثبيت جذعها. أما تلك التي نبتت في طينٍ ثقيل، واجهت التعفّن والرطوبة والظلام، فهي التي تُصبح أصلب، وأعمق، وأكثر اتصالاً بالأرض.

كذلك الإنسان. لا يُبنى العمق النفسي من خلال تراكم اللحظات السعيدة فقط، بل من خلال قدرته على استيعاب الألم، ودمجه في سرده الذاتي، وتحويله إلى حكمة. ومن هنا، يصبح السؤال الأهم ليس: "كيف أتجنب المعاناة؟"، بل: "ما الذي يريد هذا الألم أن يعلّمني إياه؟".

الجحيم الشخصي: مرآة الذات المنسية
"الجحيم" عند يونغ ليس مكانًا خارجيًّا، بل فضاءً داخليًّا. إنه ذلك الجزء من النفس الذي دفناه في اللاوعي، خوفًا من رؤيته أو مواجهته. قد يكون طفولة مؤلمة، خسارة لم تُعالج، فشلٌ أثّر على هويتنا، أو حتى رغباتٌ نعتبرها "غير مقبولة". كلما هربنا منها، زادت قوّتها. وكلما تجاهلناها، تحوّلت إلى ظلالٍ تتحكم في سلوكنا دون أن ندري.

لكن حين نجرؤ على النزول — بوعي، بصدق، وبلا حكم — إلى تلك الأعماق، نكتشف شيئًا مدهشًا: أن الظلام ليس عدوّنا، بل جزءٌ منّا. وأن في قلب ذلك الظلام تكمن بذور النور. فالمواجهة لا تدمّر، بل تحرّر. والاعتراف لا يُضعف، بل يُوحّد.

المعاناة كمعلّمٍ صامت
لا أحد ينجو من المعاناة. لا الفيلسوف، ولا القديس، ولا الفنان، ولا حتى ذلك الشخص الذي يبدو "مثاليًّا" على شاشة هاتفك. كل من ترك أثرًا في هذا العالم، مرّ بانكسارٍ ما. لأن العمق لا يُمنح، بل يُكتسب. والحكمة لا تُعلّم، بل تُعاني.

فقدان عزيز، فشل مشروع، انهيار علاقة، أو حتى لحظة وعي مفاجئة بأننا كنا نعيش حياة لا تشبهنا — كلها بوابات. ليست بوابات للهلاك، بل للولادة الثانية. فكما أن الجنين لا يولد دون ألم، كذلك الروح لا تُولد من جديد دون أن تمرّ بانهيارٍ لصورتها القديمة.

الخلاصة: أن تنمو، أن تغوص
الدعوة التي يوجّهها يونغ إلينا اليوم، في زمن السطحية والهروب الرقمي، هي دعوةٌ جريئة: لا تهرب من جحيمك. لا تُنكر ظلامك. بل انزل إليه. تحدّث إليه. اسأله ماذا يريد. لأنه في تلك اللحظة، حين تتوقف عن الهروب وتبدأ بالاستماع، يبدأ التحوّل الحقيقي.

فالشجرة لا تختار تربتها. لكنها تتعلّم كيف تمتصّ من أقذر الطين أسمى العناصر.
وكذلك أنت.

النمو الحقيقي لا يبدأ حين تشعر بالراحة،
بل حين تجرؤ على أن تغوص.



#عادل_الدول (هاشتاغ)       Adil_Al_Dool#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوساطة منهج فكري وثقافة مؤسسية
- مؤشر مايرز بريجز للأنماط (MBTI) و 16 نوعاً من الشخصية
- تعلم مهارات التعاطف والشفقة على الذات في المدرسة
- بين الطابور والطيران: مأزق الذات بين الأمان المُقنَّن والحري ...
- النجوم لا تُقارن
- أمة بلا سؤال: جسد بلا روح
- رقصة بين ضفتي الإنسان
- ولادة خارج الصندوق


المزيد.....




- منهم شيخ قطري.. كشف أسماء الدبلوماسيين المتوفين بحادث شرم ال ...
- إيران: نرحب بأي مقترح أميركي -متوازن- ولا مبرر للتفاوض مع ال ...
- انتخابات رئاسية بالكاميرون وسط توتر داخلي وتحذيرات خارجية
- 10 مليارات دولار.. ما قصة صفقة صواريخ -باك-3?؟
- كابل تعلن انتهاء العمليات العسكرية على حدود باكستان
- رئيس وزراء مدغشقر يحث على الحوار بعد انضمام عسكريين للمحتجين ...
- وقفات تضامنية مع غزة في المغرب وتونس
- قطر تنعي دبلوماسييها وتنسق مع مصر لنقل الجثامين إلى الدوحة
- ستارمر وغوتيريش يؤكدان حضور قمة شرم الشيخ
- كوبا تعلق على اتهامها بالتورط في حرب أوكرانيا


المزيد.....

- عملية تنفيذ اللامركزية في الخدمات الصحية: منظور نوعي من السو ... / بندر نوري
- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - عادل الدول - الجذور في الجحيم: في معنى المعاناة كطريقٍ للتحول