أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عادل الدول - التغيير الإيجابي والمستدام: في معنى التكيّف الهوياتي














المزيد.....

التغيير الإيجابي والمستدام: في معنى التكيّف الهوياتي


عادل الدول
كاتب

(Adil Al Dool)


الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 03:24
المحور: قضايا ثقافية
    


يشهد عالم اليوم تسارعًا غير مسبوق في وتيرة التحوّلات: تكنولوجية، وثقافية، واقتصادية، وسياسية. هذا التسارع لا يترك مجالًا للثبات، بل يفرض على الأفراد والمجتمعات أن يُعيدوا النظر في طرائق تفكيرهم وأنماط عيشهم وحدود انتمائهم. وسط هذا الزخم، تُثار أسئلة جوهرية حول الهوية: هل يمكن أن نحافظ على ذواتنا ونحن نتغيّر؟ وهل يُمكن أن نتطوّر دون أن نفقد الجذور التي تشكّلنا؟

غالبًا ما يُقدَّم التغيير بوصفه خطرًا يهدّد الهوية بالذوبان أو التلاشي، غير أن النظرة الأعمق تُظهر أن التحوّل لا ينفي الهوية، بل يختبر قابليتها للنمو والنضج. فالثبات الكامل وهمٌ لا يتحقق في أي كيان حيّ، والجمود ليس وفاءً للأصل بقدر ما هو تعطيل لقدرته على الاستمرار.

إن ما تحتاجه المجتمعات الحديثة ليس الدفاع عن ماضيها في وجه المستقبل، بل امتلاك القدرة على التكيّف الهوياتي: أي أن تُعيد ترجمة قيمها الأساسية في لغة العصر، دون أن تفقد جوهرها. فالهويّة التي لا تتغيّر تموت، والهويّة التي تتغيّر بلا وعي تتلاشى؛ أما تلك التي تعرف كيف تتكيّف، فهي التي تصنع التاريخ وتُؤسس للمستقبل.

التغيير كاختبار للنضج لا كتهديد للثبات

عندما ننظر في تجارب الأمم، نكتشف أن أكثرها بقاءً ليست تلك التي تمسّكت بصورتها الأولى، بل التي امتلكت الشجاعة لتعيد تعريف نفسها دون أن تنقلب على جذورها. فاليابان، على سبيل المثال، استطاعت بعد الحرب العالمية الثانية أن تُعيد بناء ذاتها عبر نموذج تنموي مزج بين تقنيات الغرب وروح الجماعة الشرقية. لم تذُب اليابان في الحداثة الغربية، بل روّضت الحداثة لتخدم خصوصيتها.

وفي العالم العربي، شهدت بعض المدن كدبي والدوحة تجربة لافتة في ترجمة القيم التقليدية بلغة اقتصادية وتقنية حديثة، فحافظت على ملامحها الثقافية في الوقت الذي اندمجت فيه في الاقتصاد العالمي. هذا ما يمكن تسميته بـ “الحداثة المترجمة”، لا المنقولة أو المستوردة.

الهوية كعملية ديناميكية

الهوية ليست قالبًا جامدًا نُولد فيه ونموت عليه، بل عملية مستمرة من التفاوض بين الماضي والحاضر والمستقبل. نحن لا نفقد ذواتنا حين نتغيّر، بل نفقدها عندما نتوقف عن التفاعل مع الواقع. وكما يقول عالم الاجتماع زيغمونت باومان: “الهوية مشروع أكثر منها معطى.”

إن التغيير الإيجابي لا يعني الانسلاخ عن التراث، بل امتلاك القدرة على تأويله بما يخدم الحاضر. فالقيم الكبرى كالكرامة، والعدل، والحرية، يمكن أن تبقى هي نفسها وإن اختلفت أدوات تجسيدها. تمامًا كما تتغير اللغة المنطوقة بينما تبقى المعاني الإنسانية ثابتة في جوهرها.

التكيف الهوياتي: نحو توازن بين الأصالة والمعاصرة

يُعرّف التكيف الهوياتي بأنه قدرة الأفراد والمجتمعات على إعادة إنتاج ذاتهم الثقافية ضمن شروط جديدة دون التفريط بثوابتهم الأخلاقية والقيمية. إنه توازن دقيق بين الوفاء للماضي والانفتاح على المستقبل. فالتغير الذي لا يحفظ الجوهر يتحول إلى اغتراب، بينما التمسك بالجوهر دون مرونة يؤدي إلى انغلاق.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى تجربة دول الشمال الأوروبي التي استطاعت دمج القيم الإنسانية كالعدالة والمساواة في منظومة اقتصادية رأسمالية دون أن تُسقط بعدها الاجتماعي. كما استطاعت المجتمعات الإسلامية في المهجر تطوير أشكال جديدة من الممارسة الدينية تراعي قيم المجتمعات المضيفة دون التنازل عن المعتقدات الأساسية.

نحو ثقافة التغيير الواعي

إن التغيير الإيجابي والمستدام ليس مجرد انتقالٍ من حالٍ إلى آخر، بل فعل وعيٍ أخلاقي ومعرفي يتطلّب إدراكًا عميقًا للذات والآخر في آنٍ واحد. فحين نُدرك من نحن، نصبح أكثر قدرة على الانفتاح دون خوف، وعلى التفاعل دون ذوبان.

والتحولات الكبرى في التاريخ الإنساني لم تكن يومًا نهايةً للهويات، بل بدايةً لولادات جديدة. فاليونان القديمة أعادت إنتاج فكرها في الحضارة الإسلامية، والإسلام نقل تراثه إلى أوروبا في عصر النهضة، والنهضة نفسها كانت شكلًا من أشكال “التكيّف الهوياتي” للغرب مع ماضيه الكلاسيكي.

خاتمة: الهوية كقدرة على البقاء في الحركة

الهوية ليست ما نحرسه من التغيير، بل ما نحمله معنا عبر التغيير. إن المجتمعات التي تدرك هذه الحقيقة تتحرّر من الخوف وتكتسب المرونة اللازمة للاستمرار.
ان التغيير لا يُهدّد الهوية، بل يكشف عمقها، كما لا تُختبر السفينة إلا حين تبحر.

الهويّة الحيّة هي التي تعرف كيف تتحرك بثبات، وتبقى وهي تتغير. إنها تُجسّد المعادلة الصعبة بين الوفاء للأصل والانفتاح على الأفق — بين ما كنّاه، وما يجب أن نكونه.



#عادل_الدول (هاشتاغ)       Adil_Al_Dool#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البشتون وإسرائيل: بين الأسطورة التوراتية وأدوات المشروع السي ...
- عندما يُشلّنا الخوف من الخطأ: من تبرير النية إلى امتلاك الأث ...
- هل يحتاج العالم العربي إلى ديمقراطية... أم إلى رؤية جديدة لد ...
- قانون جانتي: يُقلّل من الحسد الطبقي، ويُعزّز التماسك الاجتما ...
- هوليوود تُعيد كتابة سرديّتها: حين يكسر النجوم صمتهم عن فلسطي ...
- التسامح مع عدم اليقين
- الإنسان في عصر البيانات الرقمية: بين الوعي والسيطرة
- يطير الملفوظ... ويبقى المكتوب
- الجذور في الجحيم: في معنى المعاناة كطريقٍ للتحول
- الوساطة منهج فكري وثقافة مؤسسية
- مؤشر مايرز بريجز للأنماط (MBTI) و 16 نوعاً من الشخصية
- تعلم مهارات التعاطف والشفقة على الذات في المدرسة
- بين الطابور والطيران: مأزق الذات بين الأمان المُقنَّن والحري ...
- النجوم لا تُقارن
- أمة بلا سؤال: جسد بلا روح
- رقصة بين ضفتي الإنسان
- ولادة خارج الصندوق


المزيد.....




- خارجية أمريكا ترد على -لقاء كوشنر وأبو شباب قائد الميليشيا ا ...
- الاتحاد الأوروبي يسعى لتأجيل قانون إزالة الغابات
- مجموعة السبع تبحث بكندا أزمات غزة والسودان والكاريبي وأوكران ...
- العلاج الحراري المنزلي ربما يكون الحل الأمثل لخفض ضغط الدم
- روسيا تتصدى لمسيّرات وأوكرانيا تؤكد تدهور الأوضاع في زاباروج ...
- نشأة وتطور التصوير الفوتوغرافي في القدس
- علاج جديد يحمي الخلايا العصبية المتضررة من مرض العصبون الحرك ...
- فيديو.. تركيا تعلن مقتل 20 عسكريا في -كارثة الطائرة-
- وثائق سرية تكشف -مخاوف مكبوتة- من إمكانية انهيار اتفاق غزة
- بعدما خدعت 128 ألف شخص.. القضاء يقرر عقوبة -ملكة الكريبتو-


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عادل الدول - التغيير الإيجابي والمستدام: في معنى التكيّف الهوياتي