أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - عادل الدول - عندما يُشلّنا الخوف من الخطأ: من تبرير النية إلى امتلاك الأثر















المزيد.....

عندما يُشلّنا الخوف من الخطأ: من تبرير النية إلى امتلاك الأثر


عادل الدول
كاتب

(Adil Al Dool)


الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 18:14
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


يبدو المشهد مألوفًا في مجتمعات اليوم: أفرادٌ مثقفون، حسّاسون، يسعون للتواصل بذكاء وتعاطف، لكنهم في النهاية يختارون الصمت. ليس لأنهم لا يملكون ما يقولونه، بل لأنهم يخشون قول الشيء الخطأ.
تتردّد الأسئلة ذاتها في أذهان الكثيرين:
"ماذا لو استخدمت كلمة غير مناسبة؟"
"ماذا لو أسيء فهمي؟"
"ماذا لو دمّرت عبارة واحدة علاقة كاملة؟"

هذا الخوف من الخطأ، وإن كان يُقدَّم أحيانًا كدليل على التحضّر، أصبح في جوهره قيدًا نفسيًا وتواصليًا يُفرغ الحوار من حيويته. إنّه يجعل الناس يُدقّقون في صياغة كلماتهم إلى حدٍّ يفقدهم الصدق والعفوية، أو يدفعهم إلى الصمت تمامًا حين يكون القول واجبًا. النتيجة؟ علاقات مشدودة، مؤسسات خانقة، ومجتمعات تتجنّب المواجهة باسم “السلام الاجتماعي”.

هناك أبحاث غيّرت نظرتنا للأخطاء في العلاقات والتواصل. على سبيل المثال، تُظهر دراسة جون غوتمان حول ديناميكيات العلاقات أن الأزواج الناجحين لا يتجنبون الخلافات، بل يُصلحونها بفعالية بعد وقوعها. في الواقع، العلاقات التي تُصلح نفسها بنجاح بعد الانفصال غالبًا ما تكون أقوى من العلاقات التي لا تنهار أبدًا.

لماذا؟ لأن الكمال مستحيل. ستقول كلامًا خاطئًا في وقت ما. ستسيء فهم المواقف. ستركز على وجهة نظرك الخاصة بينما كان عليك الإنصات. ستثير غضب أحدهم دون قصد. ستسبب الأذى حتى لو لم تقصد ذلك.

السؤال ليس إن كنت سترتكب أخطاءً، بل ماذا ستفعل حين يحدث ذلك؟

الخوف من الخطأ… حين يصبح التواصل فعلَ دفاعٍ لا فعلَ تفاعل

تُظهر دراسات علم النفس الاجتماعي (Goffman, 1967؛ Brown & Levinson, 1987) أن الخوف من الإخفاق في “حفظ الوجه” – أي حماية الذات من الإحراج أو الإساءة – هو أحد أقوى الدوافع وراء تجنّب الحوار الصادق.
لكن هذا الحذر، حين يتحوّل إلى قلق دائم، يعيد تشكيل منظومة القيم اللغوية: إذ يُستبدل الصدق بالتأنّق، والحوار بالتلميح، والمسؤولية بالتحوّط.

يُصبح التواصل هنا "لعبة توازن دقيقة" لا يُقاس فيها النجاح بمدى الفهم المتبادل، بل بمدى تجنّب الخطأ. وهكذا تُختزل اللغة من كونها أداةً للفهم إلى وسيلةٍ لتفادي اللوم.

التواصل الآمن لا يعني التواصل الصامت:

تُظهر التجارب التربوية الحديثة أن ما يُسمّى بـ “التواصل الآمن” لا ينبغي أن يُفهم على أنه تواصلٌ خالٍ من الأخطاء، بل تواصلٌ قادر على إصلاحها.
فالثقة لا تُبنى على العصمة، بل على القدرة على الاعتذار، وعلى استعداد الأطراف للاعتراف بالقصور دون خوفٍ من العقاب الاجتماعي أو المهني.

إن إنشاء بيئةٍ تواصلية ناضجة يتطلب أمرين متلازمين:

افتراض النية الحسنة (principle of charity) في تفسير كلام الآخر، وهو مبدأ يؤسس للحوار بدلاً من الاتهام.

ثقافة مؤسساتية تحمي حق الخطأ، حيث يُنظر إلى التراجع والاعتذار كأفعال مسؤولية، لا كعلامات ضعف.

من الدفاع عن النوايا إلى امتلاك التأثير..

أن المسألة أعمق من مجرد “النية الطيبة”. في الواقع، نحن نقضي وقتًا طويلاً في الدفاع عن نوايانا، ووقتًا قليلًا في تحمّل مسؤولية تأثيرنا.

نقول كثيرًا:
"لم أقصد ذلك."
"لقد أسيء فهمي."
"كنت فقط أحاول المساعدة."

وربما تكون هذه التصريحات صحيحة. لكن النية لا تُلغي الأثر.
فكّر في مثال بسيط: إن وطئتُ قدمك دون قصد، فلن يخفف ألمك تبريري بأنني لم أقصد ذلك. ما تحتاجه هو اعتراف بالأذى، لا شرحٌ للنوايا.

ينطبق هذا المبدأ على التواصل كذلك.
كلماتنا تُحدث أثرًا، سواء قصدنا أم لا، ومن الطبيعي أن يكون للآخرين الحق في تسمية ما شعروا به جرّاءها. إنكار هذا الأثر بحجة “النية الحسنة” ليس حماية للعلاقة، بل إنكارٌ لتجربة الآخر.

ركز دائمًا على التأثير بدلًا من النية. قد تكون نواياك أسمى عندما تقول شيئًا، لكن أحيانًا يكون وقعه مختلفًا عما توقعته. يكون تأثيره أشد. علينا أن نعالج تلك الجروح؛ عندها، لا يتعلق الأمر بنيتنا، بل بالتأثير الذي أحدثناه.
ابدأ بالاعتراف بما حدث وأثره. لا "لكن"، ولا "مع ذلك"، ولا تفسير مباشر لما قصدته. عليك أن تتحمل مسؤوليتك، مثل"لقد جعلتك تشعر بالإهانة". "ما قلته جرحك". "كلماتي كان لها تأثير لم أقصده"وأنا آسف حقًا على ذلك."
ان الأفراد المتواصلون بفعالية ليسوا أولئك الذين لا يخطئون أبدًا، بل الذين يتحمّلون تبعات الخطأ عندما يحدث، ويعملون على ترميم الأثر بثقة وتعاطف.
في الأدبيات الحديثة لعلم النفس العلاجي (therapeutic communication)، يُعتبر هذا المبدأ – “امتلاك الأثر” – من مؤشرات النضج العاطفي، لأنه يحوّل التواصل من فعل دفاعي إلى فعل إنساني يعبّر عن الرغبة في النمو لا في الانتصار.

تجاوز الخوف دون الإضرار بالآخرين..

كيف يمكننا إذن تجاوز الخوف من الخطأ دون أن نصبح عدوانيين أو غير مبالين؟
الحل لا يكمن في كبح القول، بل في تعميق الإصغاء.
إنّ التواصل الفعّال لا يُقاس بعدد المرات التي نصيب فيها الهدف، بل بمدى قدرتنا على تصحيح المسار عندما نخطئ.

تُشير دراسات التواصل التنظيمي (Habermas, 1984؛ Isaacs, 1999) إلى أن المجتمعات التي تسمح بالنقاش الصريح ترتكب أخطاء أكثر على المدى القصير، لكنها تُحقق استقرارًا أكبر على المدى الطويل، لأنّها تُطوّر مناعتها ضد سوء الفهم.

حين ننتقل من هوس “النية الصحيحة” إلى التزام “الأثر المسؤول”، نصبح أكثر صدقًا مع أنفسنا وأكثر عدلاً مع الآخرين. فليس الهدف أن نتحدّث بلا أخطاء، بل أن نكون قادرين على ترميم أثرها حين تقع.

نحو ثقافة تواصلٍ ناضجة..

إن بناء ثقافة تواصل ناضجة لا يتطلب عباقرة بل بشراً متواضعين يدركون أن اللغة كائن حيّ، وأن الصواب فيها ليس مطلقًا بل متحوّل.
حين نتعلم أن نقول: “آسف، لم أقصد أن أؤذيك، لكن يبدو أني فعلت”، ننتقل من الدفاع عن الذات إلى الاعتراف بالآخر.
وهذا التحوّل هو جوهر التواصل الإنساني في أرقى صوره:
ليس أن نقول كل شيء بشكل صحيح، بل أن نظلّ قادرين على الإصغاء حتى عندما نخطئ.



#عادل_الدول (هاشتاغ)       Adil_Al_Dool#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يحتاج العالم العربي إلى ديمقراطية... أم إلى رؤية جديدة لد ...
- قانون جانتي: يُقلّل من الحسد الطبقي، ويُعزّز التماسك الاجتما ...
- هوليوود تُعيد كتابة سرديّتها: حين يكسر النجوم صمتهم عن فلسطي ...
- التسامح مع عدم اليقين
- الإنسان في عصر البيانات الرقمية: بين الوعي والسيطرة
- يطير الملفوظ... ويبقى المكتوب
- الجذور في الجحيم: في معنى المعاناة كطريقٍ للتحول
- الوساطة منهج فكري وثقافة مؤسسية
- مؤشر مايرز بريجز للأنماط (MBTI) و 16 نوعاً من الشخصية
- تعلم مهارات التعاطف والشفقة على الذات في المدرسة
- بين الطابور والطيران: مأزق الذات بين الأمان المُقنَّن والحري ...
- النجوم لا تُقارن
- أمة بلا سؤال: جسد بلا روح
- رقصة بين ضفتي الإنسان
- ولادة خارج الصندوق


المزيد.....




- بعد إلغائه.. ترامب يتحدث عن عقد اجتماع محتمل مع بوتين في بود ...
- -ما حدث في سوريا يصب بمصلحة السعودية-.. أبرز تصريحات أحمد ال ...
- ترشيحات -غرامي- 2026: كندريك لامار يتصدر بـ9 ترشيحات
- إيران تؤكد سعيها للسلام.. بزشكيان يرفض أي تراجع عن البرامج ا ...
- كلثم عبد الله: لا يمكن للشاعر الانفصال عن بيئته وعن قضايا مج ...
- سوريا بَعد الأسد: رؤية مراسلة لأمّة في مرحلة انتقالية
- القضاء التركي يصدر مذكرات توقيف بحق نتانياهو ومسؤولين إسرائي ...
- تركيا: القضاء يصدر مذكرات توقيف بحق نتانياهو ومسؤولين إسرائي ...
- أذربيجان تشترط قبل إرسال قوات إلى غزة
- باكستان تتحدث عن فشل المحادثات مع أفغانستان


المزيد.....

- عملية تنفيذ اللامركزية في الخدمات الصحية: منظور نوعي من السو ... / بندر نوري
- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - عادل الدول - عندما يُشلّنا الخوف من الخطأ: من تبرير النية إلى امتلاك الأثر