أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - عماد الطيب - خرابٌ تحت قبّة الجامعة: حين يتحوّل الجهل إلى لقبٍ أكاديمي















المزيد.....

خرابٌ تحت قبّة الجامعة: حين يتحوّل الجهل إلى لقبٍ أكاديمي


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8540 - 2025 / 11 / 28 - 00:39
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


لم يعد المشهد الأكاديمي العراقي بحاجة إلى عدسات مكبّرة ليرى حجم الخراب، ولا إلى لجان تقييم لكي تكتشف حجم التصدّعات التي أصابت بنيته. فبعد عقدٍ أو أكثر بقليل، تكاد الجامعات أن تُصبح مأوى يتكاثر فيه الجهلاء ببدلات رسمية وشهادات عليا مستوردة من دول الجوار، تحمل أختاماً ذهبية ولكن بلا علمٍ يذكر، بلا بحثٍ حقيقي، بلا فكرة تولد من مخٍّ متقد، وبلا مشروع معرفي يعيد للجامعة هيبتها المفقودة.
هذا ليس تشاؤماً، بل توصيف لواقع مخيف أصبح يطرق رؤوسنا كل يوم. واقع نرى فيه دكاترة لا يملكون القدرة على كتابة فقرة دون أخطاء كارثية، ومع ذلك يحصلون على درجات علمية، ويتقدّمون في السلم الوظيفي، ويجلسون في لجان علمية تحاكم الآخرين بينما هم أنفسهم لا يصلحون للجلوس على مقاعد الدرس، لا كمدرسين ولا حتى كطلاب.
كانت الجامعة العراقية يوماً ما مصنَعاً للعقول، ومجتمعاً حاضناً للجدل العلمي والإبداع والتجريب. كانت فكرة "الأستاذ الجامعي" تُشبه العالِم الذي يُستشار، والباحث الذي يُشار إليه بالبنان. اليوم، هذه الصورة تتهاوى أمام مشاهد مهزلة لم نعتد على رؤيتها:
أستاذ لا يقرأ، طالب لا يبحث، إدارة لا تطالب بالرصانة، وقاعات تُدار بعقلية الدكان الذي يبيع شهادات جاهزة. تحول البحث العلمي إلى طقسٍ شكلي، وأصبحت الاستلالات الذكية والأدوات المزوّرة بديلاً عن الجهد والتعب الحقيقي.
صار من المألوف أن تجد باحثاً "يحاضر" وهو لا يعرف مصدر المعلومة التي ينقلها، وآخر يناقش أطروحة وهو لم يقرأ في حياته كتاباً خارج حدود تخصصه الضيّق، وثالث ينشر بحوثاً في مجلات مفترسة ليملأ بها سيرته الذاتية التي تُبنى اليوم على الورق لا على العقل.
المشكلة ليست في عدد الشهادات ولا في عدد حملة الألقاب العلمية. المشكلة في غياب التفكير. لقد امتلأت الجامعات بأصحاب "دكتوراه بلا فكر". دكتوراه جاءت من جامعات خارج الحدود حيث تُباع الأطروحات بأسعار تنافسية، وحيث تُمنح الدرجات العلمية مقابل "الإقامة والسياحة"، لا مقابل الجهد الأكاديمي. مئات وربما آلاف عادوا إلى العراق بشهادات عليا، لكنهم عادوا أيضاً بلا مشروع معرفي، بلا أدوات بحث، بلا تجربة مختبرية، بلا قراءة نقدية، بلا شيء تقريباً سوى اللقب.
والمأساة ليست في أن هؤلاء يملؤون الجامعات فقط، بل في أنهم اليوم يحتلون مواقع قيادية، ويمررون قراراتهم غير المنتجة، ويُعيدون إنتاج جيلٍ يشبههم تماماً: جيل لا يعتقد أن المعرفة مسؤولية، بل سلّم للترقيات والمناصب.
في الجامعات العراقية اليوم، يكاد الإبداع يُعدّ فعلاً مشبوهاً، والفكرة الجديدة خطراً يهدد "المنظومة" التي لا تريد أن تهتز. استنسخت الجامعات مناهج من غيرها دون فهم، ونسخت بحوثاً جاهزة دون نقد، وتبنّت نماذج تعليمية مُعلّبة لا تنسجم مع الواقع العراقي، فكان الناتج جفاءً فكرياً ووهن في المنهج، وغياباً كاملاً للمبادرة العلمية. أصبحت الجامعة كالمكتب الذي يعيد طباعة أوراق قديمة، يكررها، ينقلها، ينسخها، ويعيد إنتاجها كما هي، دون أن يسأل: هل هذه الفكرة صالحة؟ هل هذا المنهج مناسب للطالب؟ هل هذه الخطة الدراسية تُخرج إنساناً قادراً على التفكير؟ لم يعد أحد يهتم. أصبحت الفكرة "سلعة" تُشترى من رفوف الإنترنت، وتُناقش في قاعة دفاع لا يحضرها أحد إلا ليصفق في النهاية ويبارك اللقب الجديد.
اما الاحتيال على برامج الاستلال أصبح فنّاً قائماً بذاته. هناك منسوخون بحرفية، وهناك من يغيرون الكلمات بمهارة، وهناك من يستعين ببرامج جاهزة تُعيد صياغة البحث خلال دقائق. ولم يعد المستنسخ يخجل من فعله، بل يتباهى بأنه حصل على نسبة استلال "أقل من 20%"، وكأن هذا إنجاز علمي. عندما يصبح الغش قانوناً غير مكتوب، يصبح الصدق شذوذاً. عندما يصبح النسخ مهارة، يصبح الإبداع عيباً. وعندما يصبح الاحتيال سلوكاً متقبلاً، تصبح الجامعة مصنعاً للألقاب لا مصنعاً للمعرفة.
في منتصف هذا المشهد الفوضوي، يقف الطالب حائراً. هو ضحية نظام أكاديمي مُنهك، وفي الوقت نفسه شريكٌ في التدهور حين يرضى بأن يشتري بحثاً جاهزاً، أو يعتمد على "الملخصات"، أو يجري الامتحانات عبر الغش الجماعي، أو يطالب بتسهيلات تُميت روح المعرفة من جذورها. الطالب الذي لم يتعلم القراءة الجادة، ولا الكتابة النقدية، ولا جهد المختبر، ولا معنى البحث، سيخرج أستاذاً فارغاً بعد عشر سنوات. وهكذا تدور الدائرة الجهنمية نفسها: جهل يُنتج جهلاً، وفكر هش يولّد فكراً أكثر هشاشة، حتى تصبح الجامعة مؤسسة بلا ذاكرة معرفية، بلا عمق، بلا أثر.
نتساءل .. هل يمكن لمؤسسة أن تنهض عندما تكون إدارتها قائمة على الانتماء الحزبي لا الانتماء الأكاديمي؟ هل يمكن لجامعة أن تتطور عندما يتسلّم مفاتيحها أشخاص لا يعرفون من الجامعة سوى أبوابها وقاعاتها الإسمنتية؟ المناصب لا تُمنح اليوم للكفاءة، بل للولاء. ولذلك تسقط الجامعة كل يوم أكثر، لأن رأسها ليس أستاذاً، بل "محسوب على جهة"، لا يفهم البحث العلمي، ولا يهمّه أن يفهمه. وبين هذه الطبقات الإدارية تتساقط أحلام الأساتذة الحقيقيين الذين يجدون أنفسهم يقاتلون وحدهم، بلا دعم، بلا صوت، بلا مساحة.
هل من أمل؟ الأمل ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى ثورة داخل الجامعة، ثورة تعيد تعريف "الأستاذ" و"الباحث" و"الطالب". نحتاج إلى نظام تقييم صارم لا يُجامل أحداً. نحتاج إلى لجان تقيس الفكرة لا اللقب، والبحث لا الورق، والرصانة لا المجاملة. نحتاج إلى أن نضع أسماء كثيرة تحت مجهر التحقيق العلمي، لا للخوف منهم، بل لحماية الجامعة من مزيد من الانهيار. إصلاح الجامعة لا يبدأ بالمباني الجديدة، ولا بالمؤتمرات الاستعراضية، ولا بالزي الرسمي. إصلاح الجامعة يبدأ من الأمانة الفكرية، من الصدق العلمي، من إعادة الاعتبار لمهنة التدريس باعتبارها مسؤولية لا مصلحة، رسالة لا تجارة.
إذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن الجامعة العراقية ستتحول إلى مصنع كبير لألقاب بلا عقول، وشهادات بلا معرفة، وأبحاث بلا روح. سنقف بعد عشر سنوات لنجد أن ما تبقى من "التعليم العالي" مجرد لافتة باهتة على باب بلا مضمون. وأن الجيل الذي سيأتي بعد ذلك سيعيش في بلد يغيب عنه التفكير، ويغيب عنه العقل، ويغيب عنه العلم، لأنه تربّى على الاستنساخ والاحتيال والمدرسة الشكلية التي تقتل الفكرة قبل أن تولد.
ولكن، ما دام هناك من يكتب، ومن يصرخ، ومن يفضح، ومن يدافع عن الجامعة باعتبارها آخر معاقل العقل، فما زال هناك بصيص ضوء… ولو كان ضعيفاً… لكنه موجود.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تتحوّل الكتابة إلى مطرقة لا ترحم
- الكتابة واشكالية المتلقي
- في المسافة بين إنسانيتهم… و ( انسانيتنا )
- حين يفقد الوطن كرامته
- من قال إن الزمن يشفي؟
- امرأة بين السطور
- حين تتحول العقول الى سجون
- في جامعاتنا .. ثقافة مشتعلة خلف أبواب مغلقة
- تقاسيم أخيرة في جنازة الذكريات
- حين يكون الصمت بيتي الأول
- العراق بين وفرة الموارد وتعطّل الإرادة
- الشخصية العراقية والسلطة والسياسة
- ذاكرة تتفتح بالشعر والحكايات
- في حضرة التفاهة .. قراءة نقدية للسطحية الرقمية
- فيروز والصباح
- حب في الستين
- فوضى العمران وضياع الهوية الجمالية في المدن العراقية
- سطحية الترند وثقافة اللايك
- برامج ام مسرحيات هزلية
- قرءة نقدية في نص - الربيع والحب في موسكو -


المزيد.....




- مصر: توقيع مشروع تجاري فندقي في القاهرة الجديدة.. وخبراء يعل ...
- إحباط بين جماهير ليفربول بعد سلسلة هزائم، وتساؤلات حول مستقب ...
- فيديو يظهر مقتل فلسطينيين في وضعية الاستسلام على ما يبدو وال ...
- غزة مباشر.. غارات في القطاع وإعدامات بالضفة
- شاهد.. جيش الاحتلال يعدم شابين من جنين بعد استسلامهما
- إدارة ترامب تعلن إعادة النظر في بطاقات -غرين كارد- الممنوحة ...
- دول أوروبية تدين تصاعد عنف المستوطنين ضدّ الفلسطينيين في الض ...
- -لدي معطيات لن أكشفها حفاظا على البلد-.. رياض سلامة يخرج عن ...
- غينيا بيساو تدخل مرحلة انتقالية جديدة.. قائد القوات البرية ي ...
- تونس: رملة الدهماني شقيقة سنية الدهماني المفرج عنها تتحدث لف ...


المزيد.....

- أساليب التعليم والتربية الحديثة / حسن صالح الشنكالي
- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - عماد الطيب - خرابٌ تحت قبّة الجامعة: حين يتحوّل الجهل إلى لقبٍ أكاديمي