عماد الطيب
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8536 - 2025 / 11 / 24 - 00:23
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
لا أعرف كيف أبدأ الحديث عن امرأةٍ اختارت الظلَّ وطناً، وعن حبٍّ لم يجرؤ يوماً على المشي تحت الشمس. هي امرأةٌ لا تُرى بسهولة، لا لأن ملامحها خافتة، بل لأن حضورها من النوع الذي لا يلمحه إلا من يعرف الإصغاء لما بين الأنفاس. إنها امرأةٌ حين تمرّ، لا يسمع أحد وقع خطواتها، لكن العالم كلّه يرتجف في داخلي، كأنها تُحرِّك خيطاً في روحي كنتُ أحسبه منذ زمن مقطوعاً.
امرأةٌ من طرازٍ قديم، لكنها ليست قديمة. حديثةٌ في كل شيء، لكنها ليست جديدة. كل وصفٍ أحاول أن أضعه عليها ينزلق من بين أصابعي، كأنها ماءٌ يتغيّر شكله مع كل نظرة، كأنها ظلٌّ لا يملك ثباتاً إلا حين يلامس الأرض التي تخصّه. وأنا — شئتُ أم أبيت — الأرض التي تتشكّل فوقها.
يقولون إن الظلَّ مساحةٌ باردة، مكانٌ للهاربين من وهج الحقيقة. لكن ظِلَّها لم يكن برودة، بل كان دفئاً خفياً لا يعوَّل عليه إلا إذا ضللت كل الطرق. كانت الظلال بالنسبة للآخرين ظلاماً، لكنها بالنسبة لي كانت فسحةً لأرى عمق الأشياء لا سطحها. وكنتُ أعرف، منذ اللحظة الأولى، أن امرأةً تأتي من الظلِّ لا يُمكن أن تكون عابرة.
لم يكن حبُّها من النوع الذي يذهب إلى الضوء ليُعلن نفسه. كان حبّاً خجولاً، عميقاً، متواطئاً مع الصمت، كأنه يوقن أن الكلام أضعف من أن يحمل ثقله. وأنا كنتُ الرجل الذي عاش طويلاً في ضجيج العالم، فلم أجد خلاصاً إلا حين جلستُ عند أعتاب ظلِّها، لا متسولاً، بل متعباً من حياةٍ بلا ملاذ.
كانت تملك قدرة عجيبة على إخفاء اتساع قلبها. تظنها جامدة، فإذا اقتربتَ منها، رأيتَ كيف يُخفي الثلجُ تحت بياضه ناراً كامنة. وتظنها هادئة، فإذا أصغيت، تسمع في داخلها صخباً يشبه المدن حين تستيقظ فجراً. امرأةٌ ذات روح مزدوجة: نصفها جدارٌ يحمي، ونصفها بابٌ يدعوك للدخول، لكنها لا تخبرك أي النصفين هو الحقيقي، فتظلّ مبهوراً، متردداً، مؤمناً ومكابراً في اللحظة نفسها.
لم أكن أريد منها اعترافاً. ولم تكن هي مهيَّأة لتعطيه. كان يكفيني أن أشعر بتلك الارتعاشة الخفيفة في الصوت حين تُناديني، بأن أرى في عينها سؤالاً لا تجرؤ على طرحه، أو أن تلتفت إليّ أكثر مما يقتضي الحديث العابر. تلك التفاصيل الصغيرة، التي لا يفهمها إلا قلبٌ اعتاد نبرة الغياب، كانت بالنسبة لي حياة كاملة.
لماذا بقي حبها في الظل؟ سؤال يطاردني كطيفٍ أعرف جيداً أنه لا فائدة من طرده. لم يبقَ في الظل لأنه ضعيف. بل لأنه قويٌّ إلى درجةٍ لا يحتمل معها الضوء. بعض المشاعر تُذبلها الإضاءة الفجائية. وبعض العلاقات تعيش في المساحات التي تخلو من أعين الناس، كأنها تستمدّ قوتها من السرّ، لا من الإعلان. حبّها كان من هذا النوع. حبٌّ يخاف أن ينهار إن وقف فوق المنصّة. حبٌّ يريد أن ينمو في صمت، مثل شجرةٍ تعرف أنها كلما صعدت أكثر تطلب منها الريح ثمناً أكبر.
وأنا، رغم كل قوتي، كنتُ هشّاً أمامها. لا أعرف لماذا. ربما لأن الرجل يُهزم أحياناً أمام الأمان، لا أمام الخوف. وامرأة الظل كانت أماني الذي لا أعرف إن كان مباحاً. كلما اقتربتُ خطوة، شعرتُ بأن الأرض تميد تحت قدميّ، فأعود خطوة إلى الوراء. وكلما ابتعدتُ عنها، وجدتها تقترب بصمت، كأنها تخشى أن تتركني أضيع، لكنّها في الوقت نفسه تخاف من أن يعرف العالم أننا نرى بعضنا بهذا القدر.
لا أدري هل كانت تحبني كما أحببتها، أم أن الحب كان من طرفٍ واحد. لكنني أعلم يقيناً أنها كانت ترتبك حين أراها، وأنها كانت تُجيد إخفاء ارتباكها، لكن ليس عني. وأنا لم يكن يعنيني إن كانت تملك القدرة على إعلان حبها للعالم، يكفيني أنها امتلكت القدرة على إخفائها عن الجميع إلا عني.
ذات يوم، سألت نفسي: هل يمكن لحبٍّ لا يرى النور أن يعيش؟ هل يمكن لعلاقةٍ بلا بداية ولا نهاية أن تُكتب لها الحياة؟ هل يحقّ لي أن أبني بيتاً في الظلّ، وأسمّيه مستقبلاً؟
كان الجواب يأتي من داخلي، صريحاً رغم قسوته: بعض البيوت لا تُبنى بالطوب، بل بالإحساس. وبعض المستقبل لا يُصنع من الوضوح، بل من ذلك الخيط الخفيّ الذي يربط شخصين دون عقدٍ، ودون وعد، ودون مشهدٍ دراميّ تحت المطر.
كنت أقرأ فيها قصةً قديمة، قصة امرأةٍ تخاف أن تُفصح عن نفسها، لأنها تعرف أن العالم لا يرحم النساء اللواتي يحببن بصدق. كانت تحرس قلبها كما تحرس أمٌّ طفلها الوحيد. تحميه من عيون الناس، من كلامهم، من فضولهم، من أحكامهم. وأنا لم أكن أريد أن أكون سبباً في أن تُخرج قلبها من مكانٍ آمن إلى معرض الرؤية العامة.
أعرف أن البعض سيقول: ما معنى أن تُحب امرأة لا تملك شجاعة الظهور؟ لكن الحب — في عمقه — ليس ساحة بطولة، بل مساحة اعتراف. وأنا كنت معترفاً بها أمام نفسي، أمام يومي الذي ينهار إن لم يمرّ طيفها عليه، أمام وحدتي التي لم تعد وحدة بعد أن عرفت أنها موجودة.
الحب ليس صوتاً مرتفعاً، بل نبرة واحدة صادقة. ليس وعداً كبيراً، بل حضوراً صغيراً لكنه ثابت. الحب ليس أن أقول لها “أحبك” خمسين مرة، بل أن أستطيع أن أكون كما أنا حين أجلس أمامها. وامرأة الظل كانت المرأة الوحيدة التي شعرتُ معها أن وجهي لا يحتاج إلى قناع.
ومع ذلك، هناك حقيقة مرة: الظلُّ لا يعيش إلى الأبد. الظلُّ يتغيّر حين تتغيّر الشمس، يطول، يقصر، يختفي، يعود. وأنا كنتُ أخشى أن يأتي يومٌ أستيقظ فيه فلا أرى ظلّها. ظلّ الإنسان ليس مجرد غيابٍ للنور، إنه شكلُه الحقيقي حين تُسقط الشمس كل الزخارف عن وجهه. وكنتُ أرى حقيقتها هناك، في ذلك اللون الرمادي الذي يهرب منه الناس.
لكنها لم تكن مستعدة لتخرج. كانت تعرف أن لحظة الضوء ستُجبرها على مواجهة نفسها، مواجهة خوفها، مواجهة ما تشعر به وما تهرب منه في آن واحد. وأنا لم أكن أريد أن أضغط عليها. قد أكون خائفاً أكثر منها، رغم ظني أنني الأجرأ.
ويوماً بعد يوم، بدأتُ أتعلم كيف أُحبّها دون أن أطلب منها شيئاً. كيف أقبلها كما هي: امرأة لا تريد أن تُرى، لكنها تريد أن تُفهَم. امرأة لا تملك شجاعة البوح، لكنها تملك صدق النظرة. وكم هو مؤلمٌ أن تكتشف أن أكثر الناس صدقاً هم الذين يخافون أن يعلنوا صدقهم. ويبدو أن قناعها لم يكن يحميها مني. كانت تنكشف أمامي رغماً عنها، لا لأنها أرادت، بل لأن القلب حين يثق بشخص، تتساقط عنه كل الأوراق اليابسة.
أحياناً كنت أفكر: لو أنها جاءتني في وضح النهار، هل كنت سأحبها بهذا القدر؟ لا أدري. ربما كان للظل سحره. ربما لأن الأشياء المختبئة تُثير فينا رغبة الاكتشاف. وربما لأنها، بكل بساطة، امرأةٌ لا يُمكن أن تُشبه أحداً، سواء وقفت في الضوء أو بقيت في الظل.
لكنني أعرف شيئاً واحداً بثقةٍ كاملة: ليست هي من اختارت الظل فقط. أنا أيضاً كنت أحتاجه. كنتُ أبحث عن شيء لا يضجّ كالعلاقات المعلنة، لا ينهار كالمشاعر المستعجلة، لا يخضع لامتحان الناس، ولا لفضول العالم. كنت أريد حباً هادئاً، كثيفاً، ينساب إليّ كما ينساب النسيم من نافذة مفتوحة. ووجدته فيها.
ومع كل هذا، يبقى داخلي صوت صغير يقول: “لن يرى حبها النور.” لا أقولها ندماً، بل اعترافاً. هذا حبٌّ مكتوبٌ أن يعيش في مساحته الخاصة. حبٌّ لا يخرج إلى الساحات، لكنه حيٌّ في داخلي، ينبض، يشتعل، ويؤلمني بقدر ما يواسيني.
بعض النساء يُكتب لهن أن يكنَّ نجماتٍ في سماء رجل. وبعضهن يُكتب لهن أن يكنَّ ظلّه. لكن امرأة الظل ليست أقلّ قيمة، ولا أقلّ حضوراً. الظلُّ ملازم، ثابت، وفيّ، لا يتخلّى، لا يتقدّم ولا يتأخر إلا بحسب صاحبِه. والمرأة التي تقف في ظلك، لا خلفك ولا أمامك، هي المرأة التي تُشبهك أكثر مما تعترف.
أعرف أن هذا الحب لن يُقال، ولن يُعلن، ولن يُكتب له أن يسير في وضح النهار. لكنه، رغم ذلك، كان أهم ما حدث لي. كان نافذةً على نفسي، ومرايا كثيرة اكتشفت فيها وجوهاً لم أعرفها من قبل. كان مدرسةً في الصبر، في الهدوء، في فهم الآخرين كما هم لا كما نريد.
امرأة الظل ليست امرأةً ناقصة. بل امرأة مكتملة، لكنها تخاف من أن يُساء فهم اكتمالها. وأنا أحببتها لا لأنها مخبّأة، بل لأنها صادقة في خوفها. لأن الظلَّ الذي تسكنه لم يكن هروباً، بل حماية. ولأنني، رغم كل شيء، كنتُ أعرف أن ما بيننا لن يختفي، حتى لو اختفينا نحن.
وهكذا، بقيت امرأتي في ظلّها العتيد. ظلٌّ يضمّني حين أتعب، يخفيني حين أنهار، ويعيد إليَّ نفسي حين أفقدها. ظلٌّ يعرفني أكثر مما يعرفني الضوء. ظلٌّ لا يطلب أن يراه العالم، بل يكفيه أن أراه أنا. وقد يكون هذا، في النهاية، أعمق أشكال الحب.
#عماد_الطيب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟