عماد الطيب
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 03:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
منذ صغري وأنا لا أميل إلى الكلام؛ كان الصمت عنواني الأول، وطريقتي الهادئة لفهم العالم. لم أكن أهرب من الناس، ولم أكن أعاني من عجز في التعبير، بل كنت أشعر أن الضجيج يشوّش رؤيتي، وأن الكلام الكثير يبدد شيئًا من حقيقتي. كنت أجد راحتي في تلك المساحة الخفية بيني وبين نفسي، حيث لا يطالبني أحد بتفسير، ولا ينتظر أحد مني جوابًا.
كبرتُ، وكبر معي هذا الميل العميق للهدوء. أدركت أن الصمت ليس ضعفًا، بل بصيرة. وأن الحديث مع النفس ليس عادة غريبة، بل مدرسة داخلية تُهذّبني كل يوم. في لحظات العزلة، أسمع ما لا يُسمع، وأرى ما لا يُرى. هناك، في ذلك الفراغ الهادئ، تتولد قراراتي، وتُعاد صياغة مساراتي. يشبه الأمر الدخول إلى واحة، أرتّب فيها أفكاري كما يرتّب المسافر أمتعته قبل السير من جديد.
حين أتحدث مع نفسي، لا أفعل ذلك من باب الوحدة، بل من باب المعرفة. فكثير من الإجابات التي لم أجدها في كلام الآخرين، وجدتها في حواري الداخلي. أستعيد كلمات باولو كويلو كلما تذكرت هذا المعنى: “إن لحظات الصمت هي التي تعلّمنا أن نرى أكثر مما يراه الكلام.” وأجد في قوله حقيقة أعرفها قبل أن أقرأها؛ فأنا أرى ذاتي أوضح عندما أبتعد عن الأصوات التي تحاول تشكيل رأيي.
حتى الشعراء، الذين لا يعيشون إلا بالكلمات، أحبوا الصمت كما أحببته. أردد أحيانًا قول محمود درويش: " في الصمت تظهر الأشياء أوضح، وتكتمل الحكاية بلا كلام.” وأشعر أن هذا السطر كُتب لي، لأن التفاصيل الخفية في حياتي لم تتجلى لي إلا حين سكنتُ وصمتُّ وتركتُ العالم يمضي دون أن أسابقه بالصوت.
الصمت علّمني التواضع؛ أن ليس كل ما أعرفه يحتاج أن يُقال، وليس كل ما يُقال يستحق أن يُسمع. علّمني أن أزن كلامي قبل أن أنطق به، وأن أختار لحظة الكلام كما يختار المسافر اتجاه الريح. وحين أتحدث، أفعل ذلك بوعي لا يأتي إلا من سكون طويل. واليوم، بعد كل هذه السنوات، أدرك أن الصمت كان هدية لم أفهم قيمتها إلا متأخرًا. هدية جعلتني أملك نفسي حين يتشتت الآخرون، وأسمع صوتي الداخلي حين تتداخل أصوات الناس. لقد وجدت في الصمت وطنًا صغيرًا، وفي نفسي رفيقًا وفي الحديث معها طريقًا أصحح به مساراتي وأعيد تشكيل أيامي.
أنا ابن الصمت… ومنه تعلّمت أن أرى، وأن أفهم، وأن أمضي.
#عماد_الطيب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟