أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - عماد الطيب - برامج ام مسرحيات هزلية














المزيد.....

برامج ام مسرحيات هزلية


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 06:54
المحور: الصحافة والاعلام
    


برزت في السنوات الأخيرة فئة من مقدمي البرامج في الفضائيات العراقية لا يمتلكون حساً إعلامياً يهدف إلى بناء الوعي أو تقديم خدمة معرفية، بقدر ما يجيدون صناعة الضجيج والغمز واللمز والإيحاء بالفضائح. كثير من الفضائيات باتت تختار الشخص الأكثر إثارة للجدل لا الأكثر مهنية، وتفضّل الصوت العالي على الفكرة العميقة، وكأن الشاشة أصبحت مسرحاً للتهريج لا منبراً للمعلومة. ولأن معيار النجاح صار مرتبطاً بعدد المشاهدات لا بنوعية المحتوى، تحوّل المذيع إلى مؤدٍّ يبحث عن “الترند” بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة أو كرامة الضيوف أو وعي الجمهور. لقد تحول بعض مقدمي البرامج إلى نماذج تشبه شخصيات السيرك أكثر مما تشبه الإعلاميين؛ فالمقدم الذي يفترض به أن يكون شاهداً على الحقيقة صار لاعباً أساسياً في تشويهها، يقتطع المشاهد من سياقها، ويقصّ الحقائق كما تُقصّ مقاطع الفيديو، ويقدّم نفسه باعتباره الصوت الشجاع الذي يكشف المستور، بينما هو في الحقيقة يختبئ خلف سيناريو معد مسبقاً يخدم أجندة القناة. الأخطر من ذلك أنه يتعامل مع الضيوف كخصوم يجب إضعافهم أو إحراجهم، لا كأصحاب رأي يجب الإنصات إليهم، فتراه يرفع صوته لإسكاتهم ويقاطعهم بحدة ليبدو هو مركز الحدث، ويستدرجهم إلى مواقف محرجة ليصنع لحظة درامية تُقتطع لاحقاً وتُحوَّل إلى مادة للترند. وهكذا يصبح الضيف مجرد عنصر ثانوي، والمعلومة مجرد خلفية، والجمهور مجرد رقم يُضاف إلى سجل المشاهدات، بينما تضيع الرسالة الإعلامية في بحر من الفوضى المقصودة.
ويترافق ذلك مع انحدار خطير في لغة الخطاب الإعلامي؛ إذ تُستبدل المفردة الرصينة بالشتيمة المغلّفة، ويُستحضر السخرية بدل التحليل، ويُستخدم التلميح بدل الدليل. بعض مقدمي البرامج بات يرى أن رفع الحاجبين وإصدار أصوات الاستهجان أهم من تقديم معلومة موثوقة، وأن إثارة الغضب لدى المشاهد أكثر قيمة من منحه تفسيراً موضوعياً. هذا الانزلاق اللغوي يعكس فراغاً معرفياً، وفراغاً أخلاقياً أشد خطورة، يجعل الشاشة فضاءً مسموماً يعيد إنتاج التوتر الاجتماعي بدلاً من تهذيبه. ومن المفارقات أن هذه البرامج تتحدث باسم الناس بينما تستخدمهم كوقود. فقصص الفقراء تُحوَّل إلى مادة للمزايدة، ومشاكل المواطنين تُلاعب بها كأوراق ضغط على الخصوم السياسيين، ومعاناة الناس تُعرض على الشاشة كأنها مشاهد سينمائية تُستغل لإثارة العاطفة لا لتحريك الحلول. ينتهي البرنامج وينصرف المذيع إلى حياته الخاصة، ويبقى الناس على حالهم، لا سقف بُني لهم، ولا راتب أعيد، ولا خدمة أُنجزت. كل ما جرى هو استثمار الألم لتحقيق مكسب إعلامي لا أكثر.
وما يثير الأسف أن هذا النمط من الإعلام لا يقتصر على برامج الفضائيات، بل أصبح ثقافة تنتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتحول بعض المقدّمين إلى أبطال افتراضيين يتصرفون كما لو أن الحقيقة ملك لهم وحدهم، ويقدّمون أنفسهم كقضاة ومحامين ومدّعين عامين في الوقت ذاته. ولأن المتابع لم يعد يفرّق بين الإعلامي واليوتيوبر، وبين التحليل والثرثرة، صار كل من يملك كاميرا وشعوراً بالجرأة يعتبر نفسه صاحب رسالة، رغم أن الرسالة الحقيقية غائبة تماماً. هذه الحالة أفرزت جمهوراً متوتراً يقيس جودة البرنامج بعدد الشتائم المتبادلة لا بعدد الأفكار المطروحة، ويرى في المذيع بطلاً إذا صرخ، وضعيفاً إذا التزم الهدوء، وكأن الوعي أصبح يُقاس بوحدة الضجيج لا بعمق التحليل. ومع الوقت تتحول الشاشة إلى مصنع للانفعال لا منصة للتنوير، وتفرض ثقافة الشجار نفسها على العقل الجمعي، فيخسر الجمهور القدرة على التفكير النقدي، ويكتفي بمشاهدة صراع بدائي يُعاد إنتاجه كل ليلة. ورغم كل ذلك، يبقى الإعلام الحقيقي هو بوابة الوعي لا بوابة الضوضاء، وهو القادر على بناء الإنسان وبناء ذائقته ومنح الناس أدوات لفهم واقعهم لا استغلال مشاعرهم. الإعلام النبيل يفتح نافذة إلى الحلول، لا باباً إلى الفوضى؛ يعرض الحقائق كما هي، لا كما يريدها الممول؛ يحترم عقل المشاهد قبل جيبه؛ ويحمل رسالة تتجاوز الاستوديو لتلامس الواقع وتساهم في تغييره. وما لم تدرك الفضائيات أن قيمتها تُقاس بما تقدّمه للمجتمع من معرفة لا بما تثيره من صراخ، ستبقى أسيرة نماذج تتقن التهريج أكثر مما تتقن مهنتها، وتعرف كيف تصنع مشاهدات ولكنها عاجزة تماماً عن صناعة وعي.
وفي النهاية، سيأتي يوم تُطفأ فيه أضواء هذه البرامج كما تُطفأ الأضواء عن أي عرض مسرحي رخيص، وسينزوي أولئك المقدّمون الذين بنوا شهرتهم على الصراخ لا على المحتوى، وسيدرك الجمهور – ولو متأخراً – أنه كان يشاهد فقاعات من الهواء لا إعلاماً حقيقياً. فالإعلام الذي يعتاش على الضجيج يموت بصمت حين تنكشف هشاشته، والإعلامي الذي يركب موجة الفضائح يغرق عند أول هدوء. وحدها الكلمة المهنية تبقى، ووحده الصوت الصادق يظل مسموعاً مهما علا فوقه الغبار. فمن لا يصنع وعياً… سيُطوى تحت طاولة النسيان، ومن لا يحترم عقل الناس… لن يحظى باحترامهم مهما صرخ أمام الكاميرا



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قرءة نقدية في نص - الربيع والحب في موسكو -
- الثقافة والفقر.. استثمار الوعي
- جدلية الجهل والسلطة عند جورج أورويل
- سأزورك يوما
- الدولمة العراقية ترند في مطاعم العالم
- رسالة اليها
- ضجيج بلا اثر
- الانتخابات .. الوجه الآخر للقمر
- العراق بين الحلم المؤجل والواقع المرير
- حلم المسافات الطويلة
- احلام ذلك الزمان
- المثقف وورقة الاقتراع
- المثقفون واشكالية السلطة
- دولة الجسور والمولات... وجنازة الصناعة العراقية
- فراسة الحب
- الصمت الانتخابي... الهدوء الذي فضح كل شيء
- اعلام الضجيج
- الحقائب المدرسية .. حقائب اثقل من طفولة اطفالنا
- أكتب كي احيا
- حمورابي… رز ولحم بطعم الحضارة


المزيد.....




- تراجع عن موقفه.. ترامب يدعو الجمهوريين للتصويت لصالح الإفراج ...
- لماذا اجتمعت حكومة المالديف في قاع البحر قبل 16 عاماً؟
- قبيل تصويت مرتقب لمجلس الأمن على قرار أمريكي بشأن غزة.. نتان ...
- واشنطن تدرج عصابة على قائمة الإرهاب وتقول إن مادورو -زعيمها- ...
- ترامب: يجب نشر ملفات إبستين لأننا -لا نخفي شيئا-
- الرئيس الجزائري يوجه بفتح تحقيق حول أسباب اندلاع حرائق غير ا ...
- مصر:  السلطات تمنع علاء عبد الفتاح من السفر إلى بريطانيا لتس ...
- هالفورد ماكيندر.. عرّاب حروب العالم
- رغم تلميحه لعملية عسكرية.. ترامب يتحدث عن لقاء مع مادورو
- ترامب: يجب نشر ملفات إبستين لأننا -لا نخفي شيئا-


المزيد.....

- مكونات الاتصال والتحول الرقمي / الدكتور سلطان عدوان
- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - عماد الطيب - برامج ام مسرحيات هزلية