أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - المثقفون واشكالية السلطة














المزيد.....

المثقفون واشكالية السلطة


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 07:26
المحور: الادب والفن
    


في عالمنا، السياسة تشبه السيرك الكبير، حيث يلبس السياسيون أقنعة البهجة والجدية في آن واحد، يتقاتلون على كرسي السلطة كما لو كانت قطعة حلوى ثمينة، بينما الثقافة تجلس في زاوية خافتة، تراقب المشهد بصمت، تمسح دموعها على صفحات الكتب، وتهمس: «هل هذا كل ما تبقى من إنسانيتنا؟» السياسة تريد النتائج الفورية، التصفيق الحماسي، الإعلانات المبهرة، ولا يهمها منطق الفكر أو عمق السؤال، أما الثقافة فتسير بخطى بطيئة، تبحث عن المعنى، عن الحقيقة، عن جمال الفكر الذي لا يرضى بالسطحية.
في العراق كما في غيره، نرى السخرية بوضوح: نواب يوقعون قوانين وهم يجهلون حتى نصوصها، وزراء يطلقون وعودًا كأنها ألعاب نارية، وأحزاب تتصارع على المناصب وكأنها مسابقة للأزياء السياسية. المثقفون؟ إذا حاولوا التدخل، تُسحب لهم مقعدهم على الطاولة، أو يُوضعون في زاوية بعيدة كي لا يفسدوا المسرحية. الثقافة هنا تتحول إلى مرايا صغيرة: تعكس الحقيقة ولكن لا يستطيع أحد أن يراها إلا إذا نظر بجدية، وهو أمر نادر.
الفلاسفة الكبار لم يغفلوا هذا الانفصال. نيتشه كان ليصف السياسيين المعاصرين بأنهم «أقزام يلهثون وراء السلطة تحت ذريعة خدمة الناس»، وروسو كان سيضحك على مفارقة أن الذين يرفعون شعارات الحرية غالبًا ما يسجنون الفكر. السياسة بلا ثقافة تتحول إلى آلة كبرى للطمع والكذب، والثقافة بلا تأثير على السياسة تتحول إلى موكب من الكلمات الجميلة بلا وزن، صدى بلا صدى.
لكن لحسن الحظ، الثقافة تملك سلاحًا مخفيًا: النقد والسخرية والوعي. يمكنها فضح الأكاذيب، كشف التزييف، جعل السياسة تواجه نفسها أمام مرآة الحقيقة. القليل فقط من السياسيين يملكون الجرأة للنظر في هذه المرآة، أغلبهم يفضلون العيش في وهم السيطرة، يبيعون القيم على الطاولة مقابل بضع أصوات ومناصب.
والنتيجة؟ مجتمع يعيش بين صخب السلطة وصمت الفكر، بين وهم القوة وحقيقة المعنى. لا السياسة تصغي للثقافة، ولا الثقافة تستطيع فرض نفسها إلا من خلال صرخات النقد الحاد. لكن من يملك الجرأة لفرض القيم على السلطة، يمكنه أن يخلق مجتمعًا أكثر إنسانية، حيث لا تكون السلطة مجرد لعبة، ولا تصبح الثقافة مجرد كلام فارغ، بل تصبح ضميرًا يقف أمام كل كذب، وجمالًا يذكرنا بما نحب أن نكون، لا بما نصبح عليه.
منذ فجر التاريخ، ظل سؤال السلطة والمثقف سؤالًا مؤرقًا: لماذا لا يحكم أهل الفكر والعقل، بدلًا من محترفي الشعارات والمصالح؟ لماذا تُقصى العقول النيّرة إلى الهامش، بينما تتصدر المشهد وجوه اعتادت الخطابة لا الحكمة؟
المثقف، بطبيعته، كائن متردد في عالم السلطة، فهو مشغول بالمعنى والضمير، بينما السياسة منشغلة بالنتائج والمصالح. الثقافة تهتم بما يجب أن يكون، والسياسة بما يمكن أن يكون. هذا التباين يجعل المثقف يعيش في فضاء القيم، والسياسي يعيش في عالم الحسابات. ومن هنا يبدأ الافتراق.
الفيلسوف أفلاطون حلم بمدينة فاضلة يحكمها الفلاسفة، لأنهم الأقدر على إدراك الخير العام، لكن التاريخ أثبت أن الفلاسفة حين اقتربوا من السلطة، اصطدموا بجدران المصالح الصلبة. سقراط مثلًا، حين حاول أن يصحّح المجتمع بفكره، أُجبر على شرب السم. وغاليليو حين قال الحقيقة عن دوران الأرض، أُجبر على الصمت. المثقفون دائمًا يثيرون قلق أصحاب الكراسي، لأنهم لا يرضون بأن يكونوا أدوات تزيين للسلطة.
في العالم العربي، العلاقة بين المثقف والسلطة كانت دائمًا مشحونة بالريبة. الأنظمة السياسية، قديمًا وحديثًا، تعاملت مع المثقفين إما كخصوم يجب تحييدهم، أو كأدوات دعاية يجب استغلالهم. قلّة فقط استطاعت أن تجمع بين الفكر والحكم، مثل ابن رشد الذي حاول أن يوائم بين العقل والدين في حضارة الأندلس.
لكن المشكلة لا تكمن في السلطة وحدها، بل في المثقف نفسه أحيانًا. فبعض المثقفين يهرب من صخب الواقع إلى أبراجهم الفكرية، مكتفين بالتنظير، غير راغبين في خوض معركة التطبيق، وكأنهم يخشون أن يلوث الفكر بنجاسة السياسة. وهكذا، بينما يحتكر السياسي المشهد العملي، يبقى المثقف متفرجًا نبيلاً، يكتب المقالات، وينتقد، دون أن يقترب من دائرة القرار.
لقد رأينا تجارب حاول فيها الفكر أن يقود السياسة، لكنها كانت قصيرة العمر: من فلاسفة الثورة الفرنسية الذين حلموا بالحرية والمساواة، إلى المثقفين الذين ساهموا في الثورات الحديثة، لكن سرعان ما أزاحتهم الماكينات الحزبية. السياسة، بطبيعتها، لا تحتمل الصراحة، ولا تحب من يذكّرها بالضمير.
إذن، لماذا لا تؤول السلطة إلى المثقفين؟ لأن المثقف يرفض الكذب المبرّر، والسياسة قائمة عليه. المثقف يبحث عن الحقيقة، والسياسة تبحث عن التبرير. المثقف يريد مجتمعًا ينهض بالقيم، والسياسي يريد مجتمعًا يصفّق للمنجزات. ولعلّ هذا ما يجعل المثقف دومًا في موقع المعارضة الأخلاقية، مهما كان قريبًا من دوائر القرار.
ومع ذلك، فالعالم بحاجة إلى نوع جديد من المثقفين .. مثقف لا يهرب من السياسة، بل يعيد تعريفها؛ لا يرى السلطة غنيمة بل مسؤولية، ولا يساوم على الحقيقة من أجل مقعد. فحين تتصالح الفكرة مع الفعل، ويصبح الضمير مرشدًا للقرار، يمكن حينها أن تعود للسياسة أخلاقها، وللمثقف مكانته، وللمجتمع توازنه الإنساني المفقود.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولة الجسور والمولات... وجنازة الصناعة العراقية
- فراسة الحب
- الصمت الانتخابي... الهدوء الذي فضح كل شيء
- اعلام الضجيج
- الحقائب المدرسية .. حقائب اثقل من طفولة اطفالنا
- أكتب كي احيا
- حمورابي… رز ولحم بطعم الحضارة
- ارتجافة الحب الاول
- الشهادة بين الرصانة والابتذال العلمي
- المستشفيات الأهلية وشرف المهنة
- مهرجانات للتهريج
- سقوط الذائقة الفنية في الفن المسرحي والتلفزيوني
- لماذا نجحت المرأة الامية وفشلت المرأة العصرية ؟!!
- لاتظلموا
- حب في مدار الزمن
- ردهات الطوارئ.. المريض بين الإهمال والديكور الطبي
- الطالب والكتاب .. خصومة مع الحياة
- القائمة الحمراء تطيح بالجامعات العراقية
- أبو صابر المسكين على موائد الطهاة
- جامعة للبيع .. والرصانة في إجازة !


المزيد.....




- بين غوريلا راقصة وطائر منحوس..صور طريفة من جوائز التصوير الك ...
- فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايت ...
- مدير السياحة والآثار بغزة: الاحتلال دمر جميع المعالم التاريخ ...
- الفئران تأكل الحديد إصدار جديد لجميل السلحوت
- مهرجان الفيلم بمراكش يكشف عن أفلام دورته
- ماذا نعرف عن -الديموقراطية التمثيلية- التي أسقطها ممداني؟
- -الخارجية- ترحب باعتماد اليونسكو 4 قرارات لصالح فلسطين: انتص ...
- الفنان المصري ياسر جلال يعتذر عن تصريحاته بشأن دور الجزائر ب ...
- ياسر جلال: رواية -غير مثبتة- عن دور للجيش الجزائري في القاهر ...
- مهرجان فلفل إسبيليت الأحمر: طعام وموسيقى وآلاف الزوار


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - المثقفون واشكالية السلطة