عماد الطيب
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 8535 - 2025 / 11 / 23 - 03:41
المحور:
قضايا ثقافية
بداية نقول انه ليست المشكلة في الأفكار؛ فالأفكار تشبه البذور: صغيرة، متواضعة، تبدو أحياناً كأنها لا تستحق الالتفات، لكنها تحمل في باطنها غابات كاملة. غير أن البذرة مهما كانت أصيلة، ومهما ورثت من صفاء الطبيعة، لا يمكنها أن تنمو فوق صخرة جرداء ولا في تربة ميتة. لذلك، يبدو أن السؤال الأهم ليس: ما الفكرة؟ بل: أين ستعيش الفكرة؟ لأننا كثيراً ما نستهلك أعمارنا في صناعة الفكرة، ونغفل عن صناعة البيئة التي تستقبلها. وهذا خطأ بشري قديم، نردده جيلاً بعد جيل كأننا لا نتعلم من تجاربنا إلا ما يعجبنا، ونترك ما يوجعنا.
الفكرة تحتاج بيئة مثلما يحتاج الطفل بيتاً. تحتاج حضناً يحميها من الريح، وشخصاً يؤمن بها حتى عندما تتلعثم وتفشل وتتعثر. الفكرة في الأشهر الأولى من عمرها تكون هشّة، قابلة للكسر بسهولة، ويمكن لضحكة ساخرة أو تعليق متعجرف أن يقتلها قبل أن تفتح عينيها. والمجتمعات التي تستهزئ بأبنائها لا يمكن أن تنتظر منهم معجزات. لا يمكن لشخص يعيش في بيئة تخاف التجديد أن يكون رائداً، ولا يمكن لعقل يصطدم بجدار التقليد كل يوم أن ينتج شيئاً يتجاوز حدود ذلك الجدار. البيئة ليست مجرد مكان، بل شبكة معقّدة من قيم، وثقافات، وطرائق تفكير، وعلاقات، ومؤسسات، وخطاب عام، وسياسات، وصور ذهنية تتكرر حتى تتحول إلى قوانين غير مكتوبة تحكم كل حركة.
ولذلك، عندما نتساءل: لماذا لا تنجح الأفكار في مجتمعٍ ما؟ يجب أن نلاحظ أولاً كيف يعامل ذلك المجتمع المختلفين. كيف ينظر للمخترع؟ كيف يتعامل مع من يطرح سؤالاً حاداً أو فكرة غريبة؟ هل يعتبره مجنوناً؟ خائناً؟ طفلاً يلعب؟ أم يعتبره رصيداً ينبغي أن يُحمى؟ الكثير من الأفكار في عالمنا العربي ماتت اختناقاً قبل أن تتنفس، ليس لأنها ضعيفة، بل لأن المكان الذي وُلدت فيه كان أضيق من أن يتسع لاحتمالاتها.
هناك فكرة شائعة تقول: “إذا كانت الفكرة عظيمة، فستفرض نفسها”. وهذه عبارة رومانسية أكثر مما هي حقيقية. الواقع يقول إن الفكرة قد تملك كل مقومات النجاح، لكن البيئة قد تكون مضادة لها تماماً. قد تكون الفكرة تقدّمية في مجتمع محافظ، أو علمية في مجتمع يؤمن بسلطة غير مرئية، أو اقتصادية في نظام يخاف من الخسائر، أو سياسية في بلد اعتاد الطاعة. الافتراض بأن الفكرة العظيمة تنتصر دائماً يشبه الاعتقاد بأن الطفل الموهوب سيكبر عبقرياً مهما حدث حوله. الحقيقة أن الموهبة وحدها لا تكفي؛ البيئة هي التي تحوّل الإمكان إلى واقع.
من الناحية الفلسفية، البيئة ليست مجرد محيط خارجي، بل هي أيضاً حضور داخلي، تشكّله التربية، واللغة، ونبرة الأسرة، ومنهج المدرسة، ونمط التعليم، وطريقة الحوار في البيت. حين يُربى الطفل على أن “الصمت حكمة”، سيخرج إلى العالم وهو يخاف من صوته. وعندما يصبح النقاش جريمة، ستصبح الأسئلة خطيئة. وحين يُقال للشاب: “لا تغيّر، كل شيء قدرك”، سيصبح القدر ذريعة للكسل. بهذه الطريقة، لا نحتاج إلى قوانين رسمية لمنع الأفكار، فالخوف يكفي. السكوت يكفي. السخرية تكفي. والجملة التي تقتل آلاف الأفكار يومياً ليست قراراً حكومياً، بل جملة يومية عابرة: “غير مفيدة… ما راح تنجح… ليش تتعب نفسك؟”
في المجتمعات التي تفشل فيها الأفكار، ستجد دائماً علاقة مأزومة مع الزمن. هناك إما تمجيد مفرط للماضي، يجعل كل جديد خطراً، أو انتظار سحري للمستقبل كأنه سيصل وحده ليحل المشاكل. أما الحاضر، فغالباً ما يكون ضحية التردد والكسل والعشوائية. في هذه المجتمعات، الأفكار لا تموت فقط، بل تُجفف قبل أن تولد. وعندما يحاول شخصٌ ما أن يقاوم التيار، يُنظر إليه كأنه يريد أن يغيّر قوانين الطبيعة. في حين أن الطبيعة ذاتها لا تتوقف عن التغيير، ولا تحترم السكون أبداً.
ومن الناحية الاجتماعية، البيئة هي أيضاً بنية مؤسساتية. فالفكرة لا تحتاج جمهوراً متعطشاً فحسب، بل تحتاج مؤسسات تحميها. الجامعات، المختبرات، وسائل الإعلام، مراكز الأبحاث، الصناعات، السياسات الحكومية . هذه تشكل طبقات التربة التي يمر بها الجذر قبل أن يرى الضوء. لذلك تنجح الأفكار في بلدان معينة ليس لأنها ولدت هناك، بل لأن هناك من حرص على أن يوفر لها مدارس وحواضن ومختبرات. وفي أماكن أخرى، قد يعيش المفكر عمره كله وهو يحاول فقط إقناع محيطه أن ما يفعله ليس مزحة.
وفي جانب آخر، البيئة ليست دائماً شيئاً يُعطى، بل يمكن أن يُصنع. غير أن صناعة البيئة تحتاج وعياً جماعياً. تحتاج أن ننتقل من فكرة “حرية الرأي” إلى فكرة “حرية التفكير”، ومن فكرة “تقبل الآخر” إلى فكرة “الاستفادة من اختلافه”. البيئة التي تنجح فيها الأفكار هي التي تحتضن التناقض، لا التي تخافه. هي التي ترى في الخطأ خطوة، لا عاراً. هي التي تعتبر السؤال بداية، لا وقاحة. كل حضارة نهضت فعلَت ذلك حين منحت أبناءها الحق بأن يخطئوا، وأن يحلموا، وأن يجربوا، وأن يخرجوا من حدود السائد.
وهنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نوفّر بيئة للفكرة؟ جزء من ذلك يحتاج سياسة، وجزء يحتاج ثقافة، لكن الجزء الأكبر يحتاج إرادة فردية. البيئة ليست مدينة كاملة، أحياناً هي غرفة صغيرة. هي صديق يشجعك. هي كتاب ألهمك. هي لحظة صدق مع النفس. هي مساحة هدوء. هي قرارك بأن تصغي لعقلك بدلاً من ضجيج الآخرين. عندما لا تستطيع أن تجد بيئة، حاول أن تبني واحدة صغيرة حولك، ولو كانت غرفة في رأسك، أو عزلة تتيح لك التفكير من دون رقابة اجتماعية.
كذلك، لا يمكن تجاهل أن هناك بيئات لا تحارب الأفكار، لكنها تُغرقها بالضوضاء. وهذه أخطر. في هذا النوع من المجتمعات، ستجد وفرة كلام، وقلة فعل. كثيرون يتكلمون عن التغيير، لكن قليلين مستعدون لتحمل تبعاته. الكل يشكو، لكن لا أحد يريد أن يبدأ. الفكرة هنا تضيع في الزحمة، كرسالة جيدة تُرمى في صندوق بريد مليء بالإعلانات. الضوضاء تقتل الأفكار بصمت، لأنها تجعل الجيد يشبه السيئ، والعميق يشبه السطحي.
ومن زاوية فلسفية أخرى، يمكن القول إن الفكرة لا تبحث عن جمالها، بل عن جدواها. والبيئة التي تحترم الفكرة هي التي تطرح عليها سؤالين أساسيين: ماذا ستضيف؟ وما الذي تحتاجه لكي تصبح واقعاً؟ الفكرة لا تطلب تصفيقاً، بل تطلب بنية كي تعمل. وحين تجد هذه البنية، تصبح قوة قادرة على تغيير المجتمعات. لكن حين تُحرم منها، تتحول إلى مجرد خيط رفيع من الحنين: “كان بإمكاننا أن نفعل، لو كانت الظروف غير ذلك”.
وبين كل هذا، هناك بعد إنساني مهم: الإيمان. الفكرة تحتاج شخصاً يؤمن بها. تماماً كما يحتاج الطفل أباً أو أمّاً يؤمنان بقدرته على المشي قبل أن يمشي فعلاً. الإيمان ليس وهماً؛ هو الطاقة الأولى التي تدفع الفكرة للنهوض. لكن الإيمان وحده لا يكفي؛ هو مجرد بداية. بعده تحتاج الفكرة عملاً، وجهداً، وصبراً، وقدرة على الصمود أمام السخرية والخذلان والتأخير. الفكرة لا تموت عادة بسبب نقص الذكاء، بل بسبب نقص الصبر. إذ لا توجد فكرة عظيمة وصلت إلى نهايتها بلا معاناة.
اليوم، ونحن نعيش في عالم سريع، تتغير فيه التكنولوجيا والعلاقات والاقتصاد والقيم كل شهر تقريباً، أصبحت البيئة التحدي الأكبر. السرعة تحتاج مرونة، والتغيير يحتاج خيالاً، والخيال يحتاج فضاءً. لذلك يبدو أن المجتمعات التي لا تزال تقيس قيمة الأفكار بمعيار “القبول الاجتماعي” تعيش خارج إيقاع العصر. لم يعد هناك وقت للانتظار الطويل. إما أن تصنع بيئة تحتضن الفكرة، أو ستجد نفسك تتفرج على أفكار الآخرين تنضج بينما أفكارك تذبل.
وإذا أردنا أن نصل إلى جملة تلخص كل هذا، فهي: الأفكار لا تفشل، بل يُفشلها المكان الذي توضع فيه. كل فكرة عظيمة تحتاج أرضاً، وماءً، ووقتاً، وأمناً. تحتاج إلى مجتمع لا يخاف من السؤال، ولا يرتعب من الجديد، ولا يعتبر التغيير خيانة. تحتاج بيئة تحترم العقل، لا حجم الصوت. تحترم التجربة، لا التعليمات. تحترم العمل، لا الخطابات.
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن لمجتمع أن يتغير إذا فهم هذه الحقيقة؟ نعم، لكنه يحتاج شجاعة. لأن تغيير البيئة أصعب من تغيير الفكرة. الفكرة تُكتب في ورقة، أما البيئة فتُكتب في النفوس.
ومع ذلك، لا شيء مستحيل. فكل نهضة في التاريخ بدأت بفكرة صغيرة، في بيئة صغيرة، في عقل شخص واحد لم يقبل أن يختنق. ثم كبرت الدائرة. وانتقلت العدوى. وتحوّل المختلف إلى قاعدة. والمتاح إلى إنجاز. وما كان مستحيلاً إلى حقيقة. وهكذا تنجح الأفكار… عندما تجد مكاناً يليق بها.
#عماد_الطيب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟