أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد الطيب - حين يفقد الوطن كرامته














المزيد.....

حين يفقد الوطن كرامته


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 02:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ليس الفقر قدراً اقتصادياً، ولا خطأ حسابياً في دفاتر الدولة، بل هو مشروع مدروس بعناية، تُبنى له مؤسسات، وتُشرَّع له قوانين، ويُزيَّن بخطابات سياسية خلّابة ليظل الإنسان مشغولاً برغيف الخبز عن كل ما سواه. الوعي الحقيقي يبدأ حين يدرك الفرد أن ما يعيشه ليس نتاج “سوء إدارة” عابر، بل جزء من هندسة اجتماعية هدفها تقليم أحلامه، وتصغير طموحه، وإشغاله بأدنى مستويات البقاء كي لا يطالب بما هو أعلى: الحقوق، الكرامة، والمحاسبة.
في الدول التي تحكمها المافيات السياسية لا يُصنع الفقر من فراغ. تبدأ الخطة بتجفيف مؤسسات الدولة، وسحب الكفاءات الواعية من مواقع القرار، ثم توزيع المناصب كغنائم حرب. يصبح الأمن الغذائي ورقة ضغط، والوظائف حصصاً، والمساعدات بوابات ولاء. بهذا الشكل يتحوّل المواطن من مالك للحق إلى متوسل للامتياز، ومن شريك في الوطن إلى تابع للسلطة.
تأمل تجارب دول تحوّل الفقر فيها إلى أداة حكم. في ثلاثينيات القرن الماضي وصف جورج أورويل في «متشرداً في باريس ولندن» كيف أنّ الفقر في أوروبا لم يكن نتيجة نقص موارد، بل نتيجة منظومة تُبقي الطبقات الدنيا في حالة انشغال دائم بحاجاتها الأولية كي لا يكون لديها فائض وعي أو وقت للتفكير السياسي. وفي "1984" يذهب أبعد، حين يصوّر دولة تُفقِر الناس لتعتقل قدرتهم على الحلم.
الأمر ذاته رأيناه في أفريقيا الوسطى، حيث الحكومات المتعاقبة كانت تعلم أن إبقاء السكان في حاجة مستمرة للمعونات يجعلهم أقل احتجاجاً وأكثر تبعية. وفي فنزويلا الحديثة، تحوّل “الدعم الغذائي” إلى أداة سياسية مباشرة: من ينتقد يُحرم، ومن يصفق يُكافأ.
وعندنا ، باتت الصورة أوضح من أن تُخفى. خذ مثالاً: بلد غني بالنفط، خزائن تكفي لقارة بأكملها، ومع ذلك يعيش أكثر من ثلث شعبه تحت خط الفقر. ليس لأن النفط تبخر، بل لأن عائداته تبخرت في جيوب قلة. حين تُعتمّد المناهج الدراسية التي تمجد الصبر على الجوع ولا تشرح كيف تُحاسَب الدولة، فهذه هندسة. حين تُعطى الرواتب على شكل “سلف” وتُهدّد بالقطع عند الاحتجاج، فهذه هندسة. حين يصبح التعيين وظيفة لا تستحقها إلا إذا مددت يدك لزعيم، فهذه هندسة.
الفقر المصنوع يمشي على ثلاث قواعد ثابتة: الأولى، إشغال المواطن بحاجات يومية تمنعه من التفكير بالزمن البعيد. الثانية، إفقار المؤسسات كي لا تجد بديلاً سوى الرضوخ للفوضى. الثالثة، تمكين الفاسد وإضعاف الشريف حتى يظل الميزان مائلاً نحو من يريد أن يحكم لا من يريد أن يصلح.
لكن الوعي لا يُشترى، ولا يُقمع إلى الأبد. لحظة الوعي هي اللحظة التي يفهم فيها الفرد أن “لقمة العيش” ليست قدراً، وأن “الكرامة” ليست شعاراً قديماً، وأن من نهب البلد هو ذاته من يطلب منك اليوم أن تنحني كي تجمع ما تبقى من الفتات. وعندما يرتفع وعي الناس إلى هذا المستوى، تنهار لعبة الفقر كلياً، لأن مشروع الإفقار كله قائم على فكرة واحدة: أن تظل خائفاً من الغد. فإذا عرفت أن من سرقك ليس الغد بل من يحكم اليوم، تتحول الخشية إلى موقف.
تجارب الشعوب التي كسرت دائرة الفقر المصنوع تؤكد أن المشكلة ليست في الموارد ولا في قدرات الناس، بل في من يحتكر القرار. كوريا الجنوبية كانت أفقر من أغلب دول منطقتنا، لكن حين قرر نظامها أن يحترم العقل قبل الولاء، تحوّلت خلال ثلاثين عاماً إلى قوة اقتصادية. رواندا التي خرجت من الإبادة أصبحت من أقل الدول فساداً في أفريقيا لأنها اختارت بناء دولة قانون لا دولة محاصصة.
الخلاصة القاسية أن الفقر ليس مرض الشعوب، بل هو سلاح من يحكمها. والوعي الحقيقي ليس أن تفهم أنك فقير، بل أن تفهم لماذا يريدونك فقيراً. من هنا تبدأ المواجهة: حين يرفع المواطن هامته ويستعيد لغته، لا ليجمع الفتات، بل ليطالب بمن سرق الجسد والروح معاً.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من قال إن الزمن يشفي؟
- امرأة بين السطور
- حين تتحول العقول الى سجون
- في جامعاتنا .. ثقافة مشتعلة خلف أبواب مغلقة
- تقاسيم أخيرة في جنازة الذكريات
- حين يكون الصمت بيتي الأول
- العراق بين وفرة الموارد وتعطّل الإرادة
- الشخصية العراقية والسلطة والسياسة
- ذاكرة تتفتح بالشعر والحكايات
- في حضرة التفاهة .. قراءة نقدية للسطحية الرقمية
- فيروز والصباح
- حب في الستين
- فوضى العمران وضياع الهوية الجمالية في المدن العراقية
- سطحية الترند وثقافة اللايك
- برامج ام مسرحيات هزلية
- قرءة نقدية في نص - الربيع والحب في موسكو -
- الثقافة والفقر.. استثمار الوعي
- جدلية الجهل والسلطة عند جورج أورويل
- سأزورك يوما
- الدولمة العراقية ترند في مطاعم العالم


المزيد.....




- هل توافق أوكرانيا على خطة السلام الجديدة لإنهاء الحرب الروسي ...
- الحكومة الأميركية تأمر بمراجعة أوضاع 200 ألف لاجئ
- بولندا تستدعي سفير إسرائيل بسبب منشور عن المحرقة
- واشنطن وكييف تؤكدان تقدم مفاوضات وقف الحرب وموسكو ترفض مطالب ...
- خطوط حمراء أوكرانية حول خطة السلام الأميركية.. ما هي؟
- مصر تتهم إثيوبيا باتباع -نهج عشوائي- بإدارة وتشغيل سد النهضة ...
- ترامب يطلق إجراءات لتصنيف فروع للإخوان -منظمات إرهابية-
- البيت الأبيض يعلّق على اتهام ترامب بالانحياز لروسيا
- ترامب يلجأ إلى -المادة 219- لتصنيف فروع للإخوان -إرهابية-
- مخطط يهدد تراثها وسكانها.. منظمة إسرائيلية تُدين قرار مصادرة ...


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد الطيب - حين يفقد الوطن كرامته