أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - فلسفة الازدحام… حين يتحوّل الطابور إلى ديانة خامسة في عالمٍ أنهكه الانتظار














المزيد.....

فلسفة الازدحام… حين يتحوّل الطابور إلى ديانة خامسة في عالمٍ أنهكه الانتظار


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 10:34
المحور: قضايا ثقافية
    


في البدء لم يكن للإنسان سوى طريقٍ مستقيم يعرف أين يبدأ وأين ينتهي، ثم اكتشف أنه مهما ركض سيجد أمامه صفًّا أطول من الليل، فاخترع الازدحام ليكون امتحانه الأرضي الذي لا ينجح فيه إلا من نسي معنى الوقت، وأنشأ له طقوسًا تشبه صلواتٍ متقطعة يقيمها عند أبواب الدوائر أو على حافات الشوارع أو في ردهات المستشفيات، حتى أصبح الطابور ديانة غير معلنة، لها أركانها ومريدها وكهنتها الذين يوزّعون على الناس صكوك الصبر وفتاوى الانتظار. إنك حين تقف في ازدحامٍ مروري أو طابور حكومي تستشعر أن العالم كله أصبح نفقًا طويلًا بلا ضوء، وأن البشر فيه يتقدمون خطوة ويتراجعون خطوتين، كأنهم يؤدّون رقصة القدر ببطءٍ مذلّ، رقصة تُسقط هيبة الزمن وتحوّل الساعة إلى حجرٍ أصمّ لا يدقّ ولا ينبض. ليس الازدحام اختناقًا فحسب، بل فلسفة كاملة في إذلال الكائن، ففي الطابور يتساوى الجميع: الغنيّ الذي يقود سيارة فارهة ينطفئ بريقها حين يلتصق خلف سيارة صدئة، والفقير الذي اعتاد أن يُداس عليه بالضرورة، وكلاهما داخل سجنٍ واحد تحرسه إشارات المرور ونوافذ الموظفين ودهاليز المؤسسات التي تتغذّى على أعمار الناس كما تتغذّى الحروب على الجنود. في الازدحام يصبح الصوت العالي هو القانون، والدهاء هو الطريق المختصر، والتحايل فضيلة تُمارسها الشعوب المرهقة كي تنجو من موتٍ بطيء اسمه "الانتظار". ومن شدة ما يطول الطابور، بات الإنسان يورّث أبناءه فنون النجاة: كيف تضع يدك على كتف الذي أمامك كي لا يسرق أحدٌ دورك، كيف تتنفس ببطء كي لا ينفد صبرك بسرعة، كيف تنظر إلى ساعة يدك ثم تضحك لأن الوقت قرر أن يستقيل من مهمته ويتركك معلّقًا بين دقيقةٍ لا تتحرك وساعةٍ لا تقترب. ولأن الازدحام صار أكثر جماهيرية من وسائل التواصل وأكثر دوامًا من الحكومات، تحوّل إلى مسرحٍ عبثي كبير يراقب فيه كل مواطن ضعف الآخر. في الازدحام ترى العابرين يصرخون لأن سيارةً صغيرة كسرت الطابور، لكنهم لا يصرخون حين تُكسر أعمارهم كل يوم. ترى الموظف الذي يوبّخ الناس لأنهم لم يجلبوا نسخة من ورقة لا قيمة لها، كأنه يحرس سرًّا كونيًا لا يعرفه غيره. ترى المريض يقف منذ الفجر أمام باب المستشفى لأن الألم لم يحصل على رقمٍ متسلسل بعد. ترى المواطن الذي يضحك على نفسه لأنه ما زال يصدّق أن الطابور سيقفز فجأة نحو النهاية. إن الطابور ليس مجرد ازدحام… إنه اختبار أخلاقي لا يُعلن عنه أحد. فهناك مَن ينتظر بكرامة، ومَن ينتظر بتهكّم، ومَن ينتظر وهو يشتعل من الداخل، ومَن يتقدّم على الآخرين لأن ضميره أعرج لا يستطيع الوقوف. الطابور يعري الأخلاق أكثر مما تفعل الكتب المقدسة، يكشف حقيقة كل شخص: من يحترم النظام، من يخترقه، من يلعنه، من يتبرع بتبرير وجوده. ولعل أخطر ما في الازدحام أنه يعيد تشكيل وعي المواطن. فالإنسان الذي يقف ساعتين في طابور من أجل معاملة بسيطة لن يفكر في مساءلة أحد، لأنه يدرك أن الوقت الذي خسره لن يعوضه حاكمٌ ولا نظام. الازدحام يربّي الناس على الصمت، على النزول المتكرر عن حقوقهم، على قبول الواقع كما هو، وعلى تصديق كذبةٍ تقول إن الانتظار قدرٌ سماوي وليس فعلاً بشريًا مشوّهًا. لم يعد الطابور وسيلة لتنظيم الحياة، بل أصبح مرآةً تشبه تلك المرايا المشوّهة في مدن الألعاب، تريك حجمك الحقيقي صغيرًا ومهزومًا وهشًا، وتجعلك تدرك أن البشر يقفون في الطوابير كي يشعروا بأنهم جزء من مشكلة عامة، لا مجرد ضحايا فرديين. حتى الازدحام المروري الذي يلتهم صباح المدن صار درسًا في الفلسفة السوداء: لماذا نتحرك بسرعة السلحفاة؟ لماذا نتوقف بلا سبب؟ لماذا نغضب؟ ولماذا نكرّر المشهد غدًا وكأننا لم نتعلم شيئًا؟ ربما لأن المدن تُبنى بلا قلب، والبشر يتكدسون بلا روح، والطرقات تُرسم بلا عقل، والوقت يُهدر كأن الناس يعيشون ألف سنة. إن أخطر ما في الازدحام أنه يحوّل الإنسان إلى رقم، والرقم إلى عادة، والعادة إلى قيد، والقيد إلى مصير يطبعه الناس على جباههم كل صباح. ومع الوقت يصبح الازدحام جزءًا من ذاكرة الجسد: حين يمشي بسرعة يشعر أنه ارتكب خطأ، وحين يصل مبكرًا يشعر أنه خرج على قوانين الجماعة، وحين لا يجد طابورًا يرتبك لأنه فقد أحد أركان العبادة اليومية. الازدحام ليس لعنة طرقات، بل لعنة إدارة، ولعنة مجتمع يفكر ببطءٍ شديد، ويتحرك بترددٍ شديد، ويتعلم بلا رغبة، ويخطط بلا خيال، وينساق بلا اعتراض. فالبشر الذين لا يستطيعون تجاوز الاختناق المروري لن يستطيعوا تجاوز اختناق أفكارهم. وحين يصبح الطابور هو المعلم الأكبر، يصبح العقل آخر التلاميذ. إننا نعيش في زمنٍ لا تقاس فيه حضارة الأمم بعدد الكتب التي تطبعها ولا بعدد الجامعات التي تبنيها، بل بعدد الطوابير التي تتقلص لا تلك التي تتمدد حتى آخر الشارع. فالازدحام ليس قدَرًا… إنه مرآةُ خللٍ يمكن إصلاحه، لكنه يحتاج إلى جرأة الاعتراف بأن الطابور ليس هو المشكلة، بل الذين جعلوا من الانتظار فاصلاً زمنياً بين المواطن وحياته. وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن لبلدٍ يغرق في الازدحام أن يخرج من ازدحام الأفكار؟ وهل يمكن للإنسان الذي اعتاد الوقوف بلا معنى أن يمشي أخيرًا نحو معنى جديد؟ ربما… يوم يتحول الطابور من ديانة إلى ذكرى، ومن جرحٍ مفتوح إلى طريق مستقيم لا يحتاج إلى صبرٍ خارق كي يُقطع.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انسحابٌ يُشبهُ خفقة
- حين يتصدّر الصغارُ المشهد… وتغدو الساحةُ مرآةً مشروخة يقيم ف ...
- أجيالٌ تتبدّل… وذائقةٌ تبحث عن نفسها
- لهيبُ الوجد
- نهاية القارئ الأخير… القصة التي تُكتب بلا مَن يقرؤها
- -صمتٌ مصلوب-
- -تاريخ الأعمال الفنية التي حاولت قتل أصحابها-
- -صوتٌ بخمسين ألف… وبلاد تُباع في المزاد-
- جريمة قتل الانتماء… حين ينجو الوطن ويُقتل المواطن
- -عندما يبدّل الناس وجوههم عند عتبة الباب-
- الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية
- نهاية الشعر وبداية الصمت
- صباحُكِ ريما... حينَ تبتسمُ الحياة
- نهاية الإنسان قبل موته: سقوط الوعي في زمن الآلة المقدّسة
- العراق... حين تنتخب الظلال نفسها
- القيامة التي لم ينتبه لها أحد
- عندما مات الجمال في مرآة الفن
- حين أحببتها كانت النقود لا تعرف اسمي
- خونة بغداد
- حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!


المزيد.....




- لحظة اندلاع حريق في COP30 مؤتمر الأطراف الثلاثين بالبرازيل
- كولومبيا تنتشل أول قطع أثرية من حطام سفينة -سان خوسيه- عام 1 ...
- بعد عامين، كيف يحاول أيتام غزة التعافي من جراحهم؟
- رحلات غامضة من غزة ـ هجرة طوعية أم خطة إسرائيلية؟
- جيفري أَبِستون وتجارةُ القاصرات
- قمة المناخ 30: أكثرمن 30 دولة تعارض مسودة الاتفاق لعدم تضمنه ...
- شهيد بخان يونس والاحتلال يواصل عمليات نسف وتدمير القطاع
- لقاء ترامب مع ممداني.. ما يجب مراقبته بزيارة عمدة نيويورك ال ...
- السعودية.. أول تعليق لنجل سعد الماضي بعد إطلاق سراح والده من ...
- تحليل لـCNN: مقاتلات ورقائق إلكترونية وصفحة بيضاء: ولي العهد ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - فلسفة الازدحام… حين يتحوّل الطابور إلى ديانة خامسة في عالمٍ أنهكه الانتظار