أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - القيامة التي لم ينتبه لها أحد














المزيد.....

القيامة التي لم ينتبه لها أحد


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 19:34
المحور: قضايا ثقافية
    


لم تحدث القيامة كما تصوّرها البشر في فزعهم الأزلي، لم تنشقّ السماء ولم تنفجر الأرض، لم يُنفخ في الصور، ولم تنفتح الكتب القديمة لتقرأ أسماء الراحلين، بل جاءت القيامة بصمتٍ ناعمٍ يشبه نسيانًا جماعيًا، زحفت كالغبار على وجه الزمن حتى غطّت ملامحه دون أن يشعر أحد. كانت البداية حين توقّفت الأشياء عن معرفة علّتها، فلم تعد الشمس تعرف سبب إشراقها، ولا الليل يتذكّر لأيّ ظلمةٍ يعود، ولا الأنهار تعرف ما الذي يجعلها تركض إلى البحر كل صباح. صار الضوء عادةً، والماء عادةً، والوجود نفسه عادةً. ولم ينتبه أحد أنّ المعنى قد مات من دون أن يُدفن.الناس ما زالوا يستيقظون، يلبسون وجوههم، ويذهبون إلى أعمالهم، لكنّهم في الحقيقة يسيرون في دوائرهم القديمة، يكرّرون أيامًا منقرضة بلطفٍ آليٍّ مذهل، وكأنهم سجناء في ساعةٍ مكسورة، عقاربها تدور حول نفسها منذ قرونٍ دون أن تشير إلى رقمٍ محدّد. لم يعُد أحد يموت لأنّ الموت غادر ساحة الحضور، ولم يولد أحد لأن الولادة فقدت وظيفتها. صارت الأرواح تمشي في أجسادٍ نسيت مَن تسكنها، وصار الجسد مسكنًا بلا ساكنٍ، والذاكرة بابًا بلا مفاتيح. كلّ شيءٍ ما زال في مكانه، لكنّ النور الذي كان يشعل الحركة تلاشى، والوجود نفسه بات يعيش في نسخةٍ غير مرئيةٍ من نفسه.كانت القيامة، ببساطةٍ تامة، فقدانَ الكون لذاكرته.
نسي الكوكب أنّه كوكب، والسماء أنّها سقف، والإنسان أنّه حيّ. لم يعد أحد يندهش، فالدهشة ماتت أوّلًا، وهي التي كانت آخر ما يُفترض أن يموت. اختفت الدموع من العيون لأن الحزن فقد مبرّره، واختفت الضحكات لأن الفرح صار فعلًا بلا موضوع. كان العالم يتحرك بإيقاعٍ مبرمجٍ خالٍ من القلب، كآلةٍ كونيةٍ تعمل من تلقاء نفسها دون طاقةٍ أو غاية.تُرى أين ذهب الله في هذا المشهد العظيم؟
لم يغِب، لكنه وقف بعيدًا يتأمّل صمته القديم، يراقب كلماته وهي تذوب في هواء الخلق البارد. لم يعد بحاجةٍ إلى وحيٍ جديد، فقد قال كلّ شيءٍ ذات زمن، وترك للبشر أن يسمعوا الصدى. لكنّ الصدى نفسه تحوّل إلى صمتٍ كثيفٍ، وصار الناس يعيشون داخله، يظنّونه حياة. وما بين صوتٍ لم يعد يُسمع وصدىً لم يعد يُردّ، تجمّد الإلهام في منتصف الطريق، وتحوّل الوجود إلى قصيدةٍ نُسيت قافيتها في فم العدم.وفي المدن التي فقدت ملامحها، تواصل الأشجار النموّ بلا أوراقٍ، كأنّها تصعد لتلمس الفراغ، والطيور تهاجر في دوائر مغلقةٍ لا تعرف جهة الشمال، والبحر ينام على صوته القديم دون أن يتذكّر متى غنّى آخر مرة. كل شيءٍ في الطبيعة بدا كأنه يعيش ذكرى نفسه، لا حقيقته. حتى الريح لم تعد ريحًا، بل تنهيدةً هائلةً تتردّد في صدر الأرض، كما لو أنّها ندمت على الدوران.في تلك الساعات غير المقاسة، بدأ الزمن يتفتّت كجدارٍ مهجور.لم يعد الأمس مختلفًا عن اليوم، ولا الغد أكثر من ظلٍّ يعيد نفسه.
كان الناس يتبادلون التحايا في الشوارع، يبتسمون، يكتبون رسائل، ينشرون صورهم، يزورون قبورًا لا تذكّرهم بشيء، ويظنّون أن كلّ ذلك طبيعي. لكنّ أحدًا لم ينتبه أن الكلمات لم تعد تملك معنى، وأن الصور لم تعد تُظهر شيئًا سوى رماد الضوء.كلّ شيءٍ صار ظلًّا لشيءٍ مضى، والظلال نفسها بدأت تتعب من التكرار، حتى بدا العالم مثل فيلمٍ قديمٍ يعاد عرضه كل ليلةٍ على شاشةٍ مشققة، والبطولة فيه لم تعد لأحد. لم يعد ثمة "أبطال"، بل مجرّد ممثلين يؤدّون أدوارهم في نصٍّ لم يكتبه أحد، نصٍّ يتكرر منذ نهاية الوعي، حيث لا مخرج في الكواليس ليعلن النهاية، ولا جمهور ينتظر التصفيق.القيامة لم تكن لحظة نهايةٍ، بل لحظة وعيٍ غابت.لم تفنَ الحياة، لكنها توقفت عن أن تكون حياة.تحوّلت الأجساد إلى طيفٍ من الماضي، والروح إلى صدىٍ بلا أصل.
صار الإنسان يعيش كأنه يحلم بنفسه، يكلّم صورته في مرآةٍ نسيَت انعكاسها، ويستيقظ في حلمٍ آخر لا يختلف عن الذي غفا فيه. ومن شدّة تكرار الأيام صار الموت نفسه طقسًا من طقوس الحياة، والبعث عادةً من عادات النوم.
لقد حدثت القيامة دون أجنحةٍ أو صواعق، دون قبورٍ تُفتح أو نارٍ تتوهّج، بل وقعت في داخل الإنسان حين انطفأ نوره من الداخل، حين خمدت الشرارة التي كانت تربطه بالمعنى الأعلى. حدثت حين توقّف عن الدهشة، حين صار يرى كلّ شيءٍ عاديًا، حتى المعجزة نفسها صارت بالنسبة إليه تكرارًا لما لا يدهش.وهكذا ظلّ العالم يدور بفراغه، يمشي بنصف قلبٍ ونصف ذاكرة، يتنفس عادة الوجود، لا حبّ الوجود.وأولئك الذين ما زال فيهم ومضٌ من وعيٍ راحوا يشعرون بثقلٍ غريبٍ في أرواحهم، كأنهم يحملون ذاكرة العالم على أكتافهم، يصرخون في صمتٍ لا يسمعه أحد، يكتبون كي لا يذوبوا في العدم، يزرعون كلماتٍ على رماد الكون علّها تُنبت معنى جديدًا، علّها توقظ الله من صمته الجميل.ربما لم تنتهِ الحياة، لكنها فقدت سببها، وربما لم يغادر الإله، لكنه أراد أن يرى ماذا سيفعل الإنسان حين يُترك في العتمة، وحين يتساوى الخوف بالأمل، والموت بالخلود. وربما، فقط ربما، لم تكن القيامة عقابًا، بل تجربةً أخيرةً للوعي كي يختبر نفسه، اختبارًا صامتًا في فضاءٍ بلا جاذبيةٍ للمعنى، حيث لا شيء يثبت إلا الذي يحلم.في هذا الحلم الذي لا ينتهي، نمشي جميعًا على أطراف الضوء، نبحث عن أول حرفٍ نعيد به اللغة إلى فم العالم، نحاول أن نتذكّر أول صرخةٍ قالت “كُن”، علّنا ننطقها من جديد.
ربما القيامة لم تكن لتُفني، بل لتوقظ ما مات فينا منذ أن صدّقنا أننا أحياء.نعم، حدثت القيامة... لكنها كانت أهدأ من أن تُسمَع، وأجمل من أن تُروى، وأقسى من أن تُفهَم.
حدثت، ومضت، وبقي العالم كما هو، إلا أن روحه قد عادت إلى حيث بدأت: إلى النقطة الأولى التي لم يكن فيها شيء... سوى الصمت.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما مات الجمال في مرآة الفن
- حين أحببتها كانت النقود لا تعرف اسمي
- خونة بغداد
- حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!
- موت الحقيقة في مقبرة الثقافة
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء
- الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت


المزيد.....




- حصريا لـCNN: بريطانيا تعلق التعاون الاستخباراتي مع أمريكا بش ...
- مستوطنون إسرائيليون يشعلون حريقا في بلدة بالضفة الغربية مع ت ...
- الحزب الشعبي الإسباني يعقد أول اجتماع له في مليلية ويقول إنه ...
- إسبانيا: مطالب بمساءلة الحكومة حول -مركزي احتجاز مهاجرين- في ...
- دراسة مموّلة من ألمانيا: الجيش الموريتاني -شديد التسييس- ودو ...
- الشرع في واشنطن.. الغولف بعد السلة؟
- الجيش الإسرائيلي يعتقل مستوطنين بعد هجمات واسعة على قرى فلسط ...
- رئيس كولومبيا: أمرت أجهزة استخبارات إنفاذ القانون بتعليق جمي ...
- حقوقيو تونس يطلقون -صرخة فزع- بعد تعليق نشاط 17 منظمة
- إيران تفكك شبكة تجسس مرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - القيامة التي لم ينتبه لها أحد