أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - موت الحقيقة في مقبرة الثقافة














المزيد.....

موت الحقيقة في مقبرة الثقافة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 09:27
المحور: قضايا ثقافية
    


لم تمت الحقيقة فجأة، بل احتضرت ببطءٍ كشيخٍ نبيلٍ أنهكه كذب أبنائه. ماتت في ضجيج الكتب، في حبر المثقفين، في المؤتمرات التي تُكرّم الوهم وتُقصي الوعي. ماتت الحقيقة يوم باعها المثقف ليشتري بها وظيفة، ويوم صارت الكلمة مشروعًا تجاريًا، والفكرُ جوازَ مرورٍ إلى موائد السلطة. لم يمت الحق بالسيف، بل بالتصفيق.كانت الثقافة في البدء وعدًا بالتحرر، ثم تحولت إلى سجنٍ من الكلمات المزخرفة، تزيّن القيد وتقبّل العصا، حتى غدت مقبرةً واسعةً تُدفن فيها الأفكار الجميلة بأيدٍ نظيفةٍ من الحبر وملوثةٍ بالريبة. كل فكرةٍ شريفةٍ ماتت في صمتٍ بينما يعيش الكذب بأسماءٍ براقةٍ ومجلداتٍ فخمةٍ وابتساماتٍ رسميةٍ تملأ الشاشات.في مقبرة الثقافة لا يُدفن الموتى فقط، بل تُدفن الأرواح الحيّة التي حاولت أن تقول "لا". كل كاتبٍ صادقٍ يُشيَّع دون جنازة، كل شاعرٍ حرٍّ يُخنق دون دم، وكل فكرٍ نزيهٍ يُدفن بين السطور كما تُدفن النار تحت الرماد. لقد صارت الثقافة سوقًا للمنافع، ميدانًا يتبارى فيه المتأنقون على بيع فتات الفكر، وكل كلمةٍ تُوزن بعدد المتابعين لا بعدد الحقائق التي تكشفها.الحقيقة لا تُحب الأضواء، إنها خجولة كزهرةٍ في ليلٍ بعيد، تنبت في العزلة وتموت حين تُعرض للبيع، أما الثقافة فقد صارت مهرجانًا من الأقنعة، تتحدث عن الحرية وهي ترتجف أمام الكاميرا، تنادي بالعدالة وهي توقع اتفاقيات الصمت، تتحدث عن التنوير وهي تبارك العتمة إذا دفعت أجرًا كافيًا.في مقبرة الثقافة، تُقام المهرجانات لتأبين الحقيقة كل عام، تُلقى الخطب باسمها، تُمنح الجوائز لقاتليها، وتُكتب المقالات الطويلة في مدحها بينما جثتها مسجّاة في الظل. يجلس النقاد حول القبر يتجادلون: هل كانت الحقيقة صريحة أكثر مما يجب؟ هل كانت تجرح؟ هل كانت ضرورية حقًا؟ ثم يخرجون مطمئنين أن موتها كان "ضروريًا لصالح الاستقرار الفكري".لقد خنقنا الحقيقة بأيدينا حين اخترنا أن نكون مثقفين بلا موقف، قراءً بلا ضمير، كتّابًا بلا وجع. حولنا الفكر إلى عادة، والقراءة إلى زينة، والكتابة إلى تجارة. صرنا نخاف من السؤال أكثر مما نخاف من الجواب، نخشى أن نكون صادقين لأن الصدق يُكلف كثيرًا، ولأن الكذب مريحٌ ومربح.
كان المثقف يومًا هو الذي يقول ما لا يُقال، واليوم هو الذي يبرر ما لا يُبرر. صار حارسًا للتابوهات التي كان يجب أن يهدمها، وصار رقيبًا على الحرف لا محررًا له، حتى باتت الثقافة سلطةً ناعمةً تشبه العطور: رائحتها فاخرة لكن جوهرها خالٍ من المعنى.
الحقيقة لا تموت إلا حين يكفّ الناس عن البحث عنها. لقد أقمنا لها جنازة جماعية حين استبدلنا السؤال بالتصفيق، والتفكير بالتقليد، والاختلاف بالولاء. في الماضي كانت الثقافة ضمير الأمة، واليوم صارت مرآةً تعكس وجه المستبدّ بألوانٍ أنيقةٍ من البلاغة.
من قال إن الحقيقة تموت؟ إنها فقط تُنفى، تُسجن، تُهدم كتبها، تُقطع ألسنة حامليها، لكنها لا تموت إلا حين نكفّ نحن عن الإيمان بها. لقد دفناها في مقبرة الثقافة حين اخترنا الأمان على الحرية، والسكوت على المواجهة، والتصفيق على الوعي. ماتت حين تحوّل الفكر إلى وظيفةٍ إدارية، والكتابة إلى إعلانٍ مدفوع الأجر، والناقد إلى موظفٍ في دائرة الأكاذيب الرسمية.في مقبرة الثقافة، تتجاور قبور الحق والجمال والضمير، على كل قبرٍ لوحةٌ أنيقة كتبوا عليها "مشروع حضاري"، وتحتها يرقد الخوف بطمأنينةٍ عجيبة. كل ضوءٍ هناك معتم، وكل كلمةٍ هناك محروسةٌ بالرقابة، وكل شاعرٍ هناك يكتب بدمه ثم يُمحى اسمه باسم اللياقة العامة.لكن الحقيقة، وإن سُجنت، تبقى نارًا صغيرةً تحت رماد الخوف، تشتعل كلما اقترب منها صادق، كلما قرأ أحدهم نصًا مكتوبًا بالدم لا بالحبر، كلما تذكّر أحدهم أن الثقافة ليست مهنة، بل موقف، وأن الفكر لا يُقاس بعدد الجوائز بل بعدد الجراح التي يفتحها في الضمير.ولأن مقبرة الثقافة لم تُغلق بعد، فإننا نمشي فوق ترابها كل يوم، نقرأ الفاتحة على أرواح أفكارنا، ونضحك على قبورنا المفتوحة ونحن نكتب عنها في الصحف. كل مثقفٍ يخاف من الحقيقة هو شاهد قبرٍ جديد، وكل كاتبٍ يزيّن الكذب بحروف جميلةٍ هو حفّارٌ بارعٌ لجثة الوعي.
أما الحقيقة، فستعود، لكنها لن تعود بهيئة نبيٍّ أو فيلسوف، بل بهيئة إنسانٍ بسيطٍ لم يقرأ الكتب ولم يكتب المقالات، لكنه يقول الحقيقة بعفويةٍ موجعةٍ تجعل المثقفين يختبئون خلف نظاراتهم السميكة، وتعيد الحياة إلى جثة الثقافة التي تعفّنت من الترف والغرور.إن موت الحقيقة لم يكن نهاية، بل بداية عصرٍ يُحاسب فيه الفكر نفسه، عصرٍ لا يُكرّم فيه الصمت، ولا يُحتفى فيه بالذل، عصرٍ ينهض فيه من بين المقابر صوتٌ يقول:“أنا الحقيقة التي خنقتموها بالبلاغة، ودفنتموها في الكلمات، وها أنا أعود، لا لأعيش بينكم، بل لأحاسبكم على موتي.”



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء
- الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن


المزيد.....




- ذعر بحيّ إيرلندي من أسد هارب.. فهل كان أسدًا فعلًا؟
- صور أولى لطائرة -كانتاس- للرحلات المباشرة بين سيدني ولندن ون ...
- بمشاعل مضيئة وألعاب نارية.. متظاهرون يعطلون حفلًا موسيقيًا إ ...
- فيديو متداول بمزاعم وجود -آثار مٌقلدة في المتحف المصري-.. هذ ...
- فشل محادثات اسطنبول بين باكستان وافغانستان.. وكابول تؤكد أن ...
- الدنمارك ستحظر بعض وسائل التواصل للأطفال دون هذا السن!
- هاف بوست.. بايدن تجاهل معلومات بشأن انتهاك إسرائيل القانون ا ...
- نجاة عائلة أحرق مستوطنون منزلها في رام الله والاحتلال يعتدي ...
- استمرار اعتداءات المستوطنين على تجمعات بدوية بالأغوار
- إسرائيل تتحكم في كميات وأسعار وأصناف الغذاء الداخل لغزة


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - موت الحقيقة في مقبرة الثقافة