أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن














المزيد.....

العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 13:25
المحور: قضايا ثقافية
    


منذ أن رفع الإنسان أول خيمةٍ على أطراف الصحراء، وسمّى من حوله أبناء الدم والعصب بـ"العشيرة"، كانت هذه الكلمة أكثر من رابطةٍ نسبية؛ كانت بوصلةَ انتماءٍ، ومأوى وجودٍ، وصرخةَ هويةٍ في وجه العدم. كانت الأرض بلا عشيرةٍ تيهاً، والسماء بلا نسبٍ غربةً، فكانت القبيلة أمّاً في زمنٍ لم يكن للإنسان فيه وطنٌ سوى ما تحمله ذاكرته من دفء النار في الليالي الباردة.
قبل الإسلام، كانت القبائل العربية كجزرٍ متباعدة في بحرٍ من الرمل، تتناحر كما تتناطح الرياح في الفلاة، لا لشيءٍ إلا لحميّةٍ جاهليةٍ تأكل أبناءها كما تأكل النار حطبها. من "حرب البسوس" التي أورثت الصحراء لعناتٍ من دمٍ ودمع، إلى داحس والغبراء، كانت القبيلة تُقاتل لتثبت وجودها لا لتبني حضارتها، وكان السيف هو المعنى الأوحد للكرامة، والدم هو اللغة التي لا تحتاج إلى ترجمان.ثم جاء الإسلام، فجمعَ ما تفرّق، ووحّد ما انكسر، وصاغ من رمال العرب أمةً لها وجهٌ واحدٌ وقلبٌ واحد. لم يعد الانتماء إلى اللحم والعظم بل إلى الفكرة والإيمان، إلى كلمةٍ تهزُّ القلوب لا الرماح، فذابت القبائل في جسدٍ واحدٍ يُدعى الأمة. لكن ما إن أُسدل الستار على حياة النبيّ، حتى تسلّلت العصبية القديمة من ثقوب التاريخ، فعادت بعض القبائل إلى الارتداد كأنها تخشى الفراغ الذي تركه غياب القائد، فكان لأبي بكر أن يُعيد الخيط إلى العقد، ولعمر أن يُقيم ميزان العدل فوق عواصف الولاء والدم.
ومع مرور الزمن، حين ارتفعت قصور بني أمية ثم بني العباس، عاد الدم يسيل لا لأنّ القبائل جاعت، بل لأنّ العروش عطشت إلى الولاء. تحولت القبيلة من نواةٍ جامعةٍ إلى أداةٍ في صراعٍ سياسيٍّ بين المشرق والمغرب، بين نار المجوسية الباقية تحت الرماد، وريح الروم التي ما زالت تهمس في أذن الضعفاء. كانت الدماء تُراق باسم الدين، والدين منها براء، وكانت القبائل تتناحر من أجل السلطان، لا من أجل الحقّ الذي قامت عليه الرسالة.واليوم، بعد أن انكسرت الخلافة، وتكسّر ظلّ الوطن بين فقرٍ وخداعٍ وسلطةٍ تُشترى بمال الشعب، نرى العشائر تُساق من جديد إلى لعبةٍ قديمة بثوبٍ جديد. صار الشيخُ يُقاس بما يُمنح لا بما يُمنع، وبما يملكه من علاقاتٍ لا بما يحفظه من كرامات، وانقسمت العشيرة الواحدة بين ولاءاتٍ تُملى عليها كما تُوزّع الحصص على طاولة السياسة. يتحدثون باسم الشعب، لكنّهم يقتاتون من فتات السلطة، يرفعون الرايات لا للكرامة بل للمناصب، حتى صار بعضهم يُعيد إحياء حكم الإقطاع بثوبٍ من الوطنية المزيّفة.لكن العشيرة، في أصلها الأصيل، ليست حزباً ولا ذراعاً للسلطة. هي ضمير الأرض حين يصمت الحاكم، وصوت العدالة حين تُكمم الأفواه. العشيرة لا تُربط بسلاسل السياسة، ولا تُشترى بذهب الدولة، لأنّها روحٌ أقدم من الدولة ذاتها، وجذرٌ أعمق من أي دستورٍ أو نظام. مكانها الطبيعي في صفّ الوطن، لا في صفّ الحاكم. قوتها حين تبقى مستقلة، شامخةً مثل نخلةٍ في وجه الريح، لا تميل إلا للحقّ، ولا تبايع إلا الكرامة.
الشيخ الحقّ ليس من يجلس على عرشٍ من ولاءاتٍ مزيفة، بل من يحمل وجع أبناء عشيرته كما يحمل الأب طفله، يقف معهم لا فوقهم، ويحفظ دماءهم لا ليقايض بها، بل ليصون بها معنى الرجولة والشرف. العشيرة التي تنحاز إلى الشعب تبقى في الذاكرة، والتي تنحاز إلى السلطة تموت في أول تغييرٍ سياسيٍّ أو انقلاب.إننا نعيش زمناً يُراد فيه تفتيتُ النسيج باسم الحداثة، وإضعافُ العشيرة باسم الدولة، بينما الحقيقة أنّ الوطن لا يقوم إلا على جذورٍ تعرف معنى التضحية. العشيرة ليست نقيض الوطن، بل هي قلبه النابض منذ الأزل، وإذا أراد الحاكم بناء دولةٍ قوية فعليه أن يضع العشيرة في مكانها الصحيح: درعاً للوطن، لا سيفاً عليه.
ستبقى العشيرة، ما دامت الأرض تنبت رجالاً، هي المأوى الأخير حين تخون المدن أبناءها، وهي الذاكرة التي لا يقدر المال على شرائها، ولا السياسة على احتوائها. فحين تنهار الأنظمة وتُمحى الأسماء، تبقى القبيلة في ذاكرة الصحراء مثل نقشٍ لا تمحوه الريح: شامخةً، مستقلةً، تُصلي لوطنٍ لا لسلطة، وتُقسم بترابها لا بعروشٍ زائلة.
لأن العشيرة — في جوهرها — ليست تجمعَ دمٍ فحسب، بل إرثُ كرامةٍ، ووصيةُ شرفٍ، وصدى قديمٌ يقول منذ فجر التاريخ: من فقدَ عشيرته، فقدَ صوته في وجه الطغاة.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم
- تُناجي الأطلالُ غريبَها
- الضعف المضيء
- العاشق الخائف من الرنين
- حديث الظلال.. في فلسفة الفتنة ومكر السلطان
- الآلة التي بكت في صمت الوجود
- لبنان.. مرآة الوجع العربي وسؤال الدولة الغائبة
- الذيولُ والبندقية: مهرجانُ الطوائف في بلادٍ لا تبرح أن تكون ...


المزيد.....




- رئيسة الوزراء الجديدة تدخلت لإبعاده.. لحظة حرجة لترامب خلال ...
- سيدني سويني بإطلالة -زهريّة- أنثوية على السجادة الحمراء
- جاكيت شارون ستون الأحمر يسرق الأضواء في لوس أنجلوس
- مشاهد لم تُعرض من قبل للصحفي الأمريكي المفقود أوستن تايس
- العشق الممنوع: كيف ضحت الأميرة مارغريت بالحب لحماية امتيازات ...
- فيديو - مطاردة بسرعة 200 ميل في الساعة تنتهي بتوقيف مشتبه به ...
- ما قصة -فندق حماس- الفاخر في القاهرة؟
- عودة لأجواء الحرب الباردة.. جيش ألمانيا يستعيد قواعده السابق ...
- نجل مروان البرغوثي يدعو ترامب إلى الضغط على إسرائيل للإفراج ...
- -التنمر- على زوجة الرئيس.. القضاء الفرنسي يحاكم 10 أشخاص ادع ...


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن