أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - إعلان وفاة حي














المزيد.....

إعلان وفاة حي


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 00:13
المحور: قضايا ثقافية
    


اليوم أُعلن وفاة رجلٍ ما زال يتنفس، رجلٍ لم يدفن تحت التراب بل دفن في صدور الناس، في أعماق المدن التي تعلمت كيف تصفق للجلاد وتلعن الضحية، في الأزقة التي تشهد أن الشرف صار تجارة، وأن الدين صار وسيلةً لإسكات العقل وتحريم النور. أُعلن وفاة رجلٍ اسمه حامد الضبياني، شاعرٌ طارده الحزن كما تطارد الريح ورقة الخريف، عاش عمره وهو يكتب بدمه لا بحبره، ويغسل جراحه بالكلمات. مات الضبياني حيًّا، مات وهو يرى وطنه يذبح الفكر بسكين الشعارات، ويرى العقول تغترب في أرضٍ تكره السؤال وتقدس الجهل، مات حين أدرك أن الفقر ليس عيبًا بل قدرٌ يوزّعه اللصوص على من تبقى من الشرفاء. مات حين صار الشعرُ فعلاً يُدان، والحقيقةُ تهمةً تُحاكم، والإحساسُ خطيئةً يُستتاب منها. مات حين أحب امرأةً كانت تمشي على جسرٍ من المصالح، تضع الفكر في حقيبة المظهر، تزن الحب بميزان المنافع، فظنّها ملاكًا، فإذا بها خنجرٌ يبتسمُ بعطرٍ زائفٍ، فطعنته في القلبِ باسم الحرية، ومضت تبحث عن قادمٍ آخر لا يحمل قلبًا بل مرآةً تعكسها. لقد مات الضبياني لأن الزمن الذي يعيش فيه لم يعد يتسع لصدقٍ واحد، ولا لقصيدةٍ تنبت من وجدانٍ حرّ، فالأحياء من حوله يتحركون بلا أرواح، يتنفسون المصلحة، ويقدّسون الأقنعة، ويمشون في جنازاتهم كلّ يوم دون أن يدركوا أنهم موتى منذ أن باعوا ضمائرهم. في بلادٍ أُنهكت بالزيف، تُوزَّع المناصب على من يحسنون الكذب، وتُشنق الكلمة في ميدان الحقيقة، ويمتطي الجهلُ صهوة الدينِ كما يمتطي اللصُّ عباءة القداسة، في بلادٍ يُكرم فيها المنافق، ويُطارد فيها الشاعر، ويُجاع فيها المفكر، ويُسجن فيها الحلم، في بلادٍ تعلم الناس أن يرفعوا رؤوسهم تكبّرًا لا عزةً، وأن يركعوا لمناصبهم لا لربّهم، في بلادٍ صار فيها الشرفُ ورقةً رسمية، والكرامةُ بندًا يُناقَش في لجنة. هناك مات الضبياني حيًّا، يمشي في طرقاتٍ يعرفها جيدًا لكنها لم تعد تعرفه، يحمل على كتفيه رماد وطنٍ يحترق ببطء، ويسأل نفسه: هل بقي للإنسان مكان في زمنٍ بلا إنسان؟ هل يمكن للحياة أن تنبض في صدرٍ امتلأ بالخذلان؟...لكنه في موته الرمزي، لم يكن هزيمة، بل تحوّل إلى فكرةٍ ترفرف في هواء الفجر، إلى رمادٍ ينتظر الريح لتبعثره في وجه الطغيان، إلى بذرةٍ تسقط في قلب الأرض لتنبت من جديد. فالموت الحقيقي هو السكون، أما الضبياني فكان ضجيجًا من نور، لا يموت إلا ليُبعث من رماده. بعد موته الأول، بدأ يكتب من العدم، يكتب لا ليُنشر بل ليُطهّر الوجود من الكذب، يكتب لنفسه، لظله، لطفلٍ في داخله لم يتعلم الغدر. صار الموت عنده حياةً أخرى، وصارت الحياة قبراً مفتوحاً، وصار الوجع صلاةً يتلوها في ليله الطويل. لقد بعث الضبياني من رماده لا جسداً بل وعياً، عاد من موته ليقول للعالم: إن الفكر لا يُقتل، وإن الضمير إن مات في رجلٍ واحدٍ فسيُبعث في ألفٍ من بعده، وإن النار التي أحرقتني كانت هي ذاتها التي أنارت دربي نحو الخلود.عاد وهو يعلم أن من يخسر كل شيء يربح نفسه، وأن الحرية لا تُستجدى من الطغاة بل تُنتزع من الخوف، وأن الشعر إن كان موتاً فهو أبهى من حياةٍ بلا معنى. بعث الضبياني وهو يرى نفسه يمشي بين القبور يبحث عن أحياءٍ لم يموتوا بعد، يطرق أبوابهم ويهمس: "انهضوا من رمادكم، فالوطن لا يُبنى بالتصفيق بل بالدموع التي تصير ضوءاً." لم يعد يخاف الموت لأنه ذاقه وهو حي، ولم يعد يخشى المنفى لأنه أدرك أن الوطن الحقيقي هو الفكرة، هو الكلمة، هو الإنسان حين يظل نزيهاً وسط القذارة العامة.الضبياني الذي مات حيًّا لم يمت عبثاً، بل صار رمزا لمن لا يجد في الحياة ما يستحق البقاء إلا الكرامة، صار صوته صدى كل شاعرٍ هُجّر، وكل فكرٍ أُحرق، وكل حبٍ خُذل. لقد فهم بعد موته أن الحياة ليست أن تتنفس، بل أن يكون في صدرك ضوءٌ لا يُطفأ، وأنك حين تكتب بصدقٍ واحدٍ فإنك تهزم ألف جدارٍ من الزيف. فها هو يعود من موته ليكتب من جديد، ليقول إن الذين يظنون أنهم دفنوه إنما دفنوا ظلالهم، وأن الفكر الحرّ لا يُقبر، وإن قُبر الجسد. هكذا قام الضبياني من رماده، يمشي وحيداً في فجرٍ لم يولد بعد، ينثر رماده على طريق القادمين، ويبتسم لأنه علم أن موته كان بدايةً لحياةٍ أخرى، وأن إعلان وفاته لم يكن سوى بيان ميلادٍ جديدٍ لعصرٍ ينتظر أن يُطهَّر من الخديعة.وهكذا، لم يعد إعلان وفاته رثاءً، بل وثيقة ميلادٍ جديدة، ميلادٍ لفكرٍ تمرّد على موته، ولقلبٍ رفض أن يُدفن في الصمت، ولشاعرٍ فهم أخيراً أن بعض الموت حياة، وأن بعض الرماد بذرة، وأن الكلمة — وحدها — هي التي لا تموت.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم
- تُناجي الأطلالُ غريبَها
- الضعف المضيء
- العاشق الخائف من الرنين
- حديث الظلال.. في فلسفة الفتنة ومكر السلطان
- الآلة التي بكت في صمت الوجود
- لبنان.. مرآة الوجع العربي وسؤال الدولة الغائبة
- الذيولُ والبندقية: مهرجانُ الطوائف في بلادٍ لا تبرح أن تكون ...
- يا امرأةً تمشي على حرير الغواية
- الغيرة الشريفة... فلسفة النقاء في زمن الابتذال
- الشرق الأوسط بين إعادة التوازن وتفكيك النفوذ الإيراني
- في ذكرى المجزرة..مدرسة بلاط الشهداء وجريمة إيران
- العراق.. حلم اللقاء المتحقق في مرايا النفط والسياسة
- عطرُ حضوركِ


المزيد.....




- السعودية.. فيديو تأثر صالح الفوزان خلال فتاوى وأحاديث له تثي ...
- الأردن.. جملة قالها شخص لولي العهد لحظة مروره بجانبه تثير تف ...
- ماذا تعرف عن مشروع سموتريتش لدفن ما تبقى من فلسطين؟
- وفاة ملكة تايلاند الأم سيريكيت عن عمر 93 عاما
- -سم في الشوكولاتة والمربى-.. رئيس الإكوادور يكشف لـCNN عن تع ...
- مادورو يتهم الولايات المتحدة بـ-فبركة حرب- بعد تحريك أكبر حا ...
- مبعوث بوتين: أميركا وروسيا وأوكرانيا تقترب من حل دبلوماسي
- توتر الكاريبي.. واشنطن تنشر حاملة طائرات قرب فنزويلا
- تقرير.. البيت الأبيض يضغط لإلغاء عقوبات سوريا -الأشد قسوة-
- بريطانيا.. سجن شبان بتهمة إحراق معدات مخصصة لأوكرانيا


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - إعلان وفاة حي