أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤجَّلة في زمنِ السياسة














المزيد.....

مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤجَّلة في زمنِ السياسة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8505 - 2025 / 10 / 24 - 11:06
المحور: قضايا ثقافية
    


في اللحظة التي جلس فيها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أمام وجوهٍ أنهكها الغبارُ والعمرُ والخذلان، بدا المشهد أشبه بمسرحيةٍ من تأملٍ وجودي طويل، لا من لقاءٍ إداريٍّ عابر. كانت الوجوه التي أمامه لا تطلب زيادةً في الأجر، بل اعترافًا بذاكرةٍ منسيّة. كانوا يتحدثون لا بأصواتهم، بل بأجسادٍ نخرها الانتظار، وكأنّ كلّ تجعيدةٍ على وجوههم سطرٌ من قانونٍ لم يُطبّق، وكلّ نظرةٍ في أعينهم بندٌ من مادةٍ أُقِرَّت ولم تُنفَّذ.تتراكمُ السنوات في العراق كما تتراكمُ الأتربة على نصبٍ حجريٍّ فقدَ ملامحه. عشرون عامًا والوعود تتكرّر: سنطبّق المادة ٣٦، وسنراجع المادة ١٤، وسنفعّل المادة ١٢. عشرون عامًا من الصبر، والذين أفنوا أعمارهم في خدمة الدولة باتوا يشحذون حقّهم من دولةٍ تلوك الكلام ولا تبلعه، تصوغُ البيان ثم تنساه في دهاليز الروتين. ما بين قانونٍ مُقَرٍّ وموازنةٍ مفقودةٍ ومسؤولٍ لا يسمع، تُرك المتقاعدون في فراغٍ يشبهُ الموتَ بلا جنازة.لم يكن لقاء السوداني بهم لحظةَ عدلٍ بقدر ما كان مرآةً تُظهر هشاشةَ العلاقة بين الحاكم والمُنتظر. فمنذ أن انهار أول جدارٍ من نظامٍ قديم، والعراق يعيشُ في جدلٍ دائمٍ بين الوعد والتنفيذ، بين القانون والضمير، بين الخطاب والواقع. وكلّما اقتربت الانتخابات، انتعشت ذاكرة السلطة بالشفقة، وكأنّ المتقاعدَ لا يستحقّ العدالة إلا حين تُقرعُ طبولُ السياسة.الجيشُ السابق والمدنيون الذين تقاعدوا قبل ٢٠١٤... وجوهٌ من الطين والعرق، حملوا الوطنَ على أكتافهم، لا ليتسلقوا به، بل ليحموه. دافعوا عنه حين كان الدفاعُ مكلفًا، وحين كانت الوطنية تُدفعُ بالدم لا بالشعارات. وحين أُغلق البابُ خلفهم، وارتاح السياسيّون في مقاعدهم الوثيرة، تُرك أولئك الرجالُ في الممرّ البارد للانتظار. جاعوا بصمت، ومرضوا بصبر، ومات منهم من لم يرَ في آخر الطريق إلا ورقةً صفراء تقول "المعاملة قيد التدقيق".هل يدركُ السوداني أنّ العدالة المؤجَّلة ليست عدالة؟ أنّ الوعود التي لا تُنفَّذ تتحوّل مع الزمن إلى إهانةٍ صامتة؟ أنّ المتقاعد لا يحتاج إلى منّةٍ أو فضل، بل إلى إنصافٍ يعيد إليه شيئًا من كرامةٍ ذابت في الروتين؟ لقد تحوّلت القوانين إلى جدرانٍ تُعلَّق عليها الكلمات، لا إلى جسورٍ تعبرُ الإنسان إلى حياةٍ كريمة. من المسؤول إذن عن موت الآلاف من المرضى الذين غادرت أرواحُهم وهم ينتظرون تطبيق موادّ أُقِرّت في الأوراق ولم تُقرّ في الضمائر؟السلطة في فلسفتها ليست منصبًا، بل مسؤولية أمام الزمن. والزمن، كما يقول نيتشه، لا يرحم من يخون لحظته. فكيف بمن خان وعدًا امتدَّ عقدين؟ المتقاعد العراقي ليس عابرًا في طريق السياسة، بل هو حجر الأساس في بناء الدولة. وإذا نُسف هذا الأساس، فكلُّ عمارةٍ تُقامُ فوقه هي خرابٌ مؤجَّل.إنّ لقاء السوداني، على ما حمله من نوايا وتصريحات، بدا كمن يزرعُ شجرةً في أرضٍ عطشى، ثم يرحل قبل أن يسقيها. الكلام لا يُطعم جائعًا، ولا يشفي مريضًا، ولا يُعيد كرامةَ من عاش عمرَه تحت سقفٍ من النسيان. الوطن الذي يُهين متقاعديه لا يُبقي لنفسه ذاكرة، لأنّ الذاكرة التي لا تُكرَّم تموت، ومعها يموتُ معنى الانتماء.ربما أراد السوداني أن يُعيد الأمل، لكن الأمل الذي يُقال لا الذي يُفعل، يتحوّل في الوجدان إلى سخريةٍ مريرة. فكم وعدٍ سمعه المتقاعدون منذ عشرين عامًا؟ كم تصريحٍ بُثّ في الشاشات وانتهى مع انطفاء الكاميرا؟ كم من لجنةٍ تشكّلت ثم ذابت في أرشيفٍ بلا تاريخ؟ كلّ تلك الوعود تشبه مواعيد عرقوب، لا تأتي إلا لتؤجَّل، ولا تؤجَّل إلا لتُنسى.في نهاية المشهد، يقف المتقاعدون كأبطالٍ في مأساةٍ إغريقية طويلة. لا يملكون إلا الانتظار، ولا ينتظرون إلا وعدًا آخر قد لا يأتي. لكن ما لم يفهمه الساسة بعد، أنّ الانتظار ليس صبرًا إلى الأبد، وأنّ الجوع حين يشتدّ يتحوّل إلى سؤالٍ أخلاقيٍّ لا يُجاب عنه بالبيانات.أيّها الساسة، إنّ من دافع عن العراق لا يستحقّ الإهمال، ومن بنى الدولة لا يجوز أن يُدفن حيًّا في تقاعدٍ بلا كرامة. إنّ العدالة التي تُمنح بعد الموت لا تُسمّى عدالة، والرحمة التي تأتي بعد أن يفنى الجسد لا تُسمّى إنصافًا.
سيكتب التاريخ أنّ المتقاعد العراقي انتظر عشرين عامًا لا ليسمع خطابًا جديدًا، بل ليحيا قليلًا من الكرامة التي حُرِم منها. وسيبقى السؤال الفلسفي المعلّق في فضاء الوطن:
هل ستولد العدالة في العراق يومًا من رحم الصدق؟أم أنّها ستظلُّ حُلمًا مؤجَّلًا يُروى في خطابات السياسة كما تُروى مواعيد عرقوب في كتب الأدب؟



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم
- تُناجي الأطلالُ غريبَها
- الضعف المضيء
- العاشق الخائف من الرنين
- حديث الظلال.. في فلسفة الفتنة ومكر السلطان
- الآلة التي بكت في صمت الوجود
- لبنان.. مرآة الوجع العربي وسؤال الدولة الغائبة
- الذيولُ والبندقية: مهرجانُ الطوائف في بلادٍ لا تبرح أن تكون ...
- يا امرأةً تمشي على حرير الغواية
- الغيرة الشريفة... فلسفة النقاء في زمن الابتذال
- الشرق الأوسط بين إعادة التوازن وتفكيك النفوذ الإيراني
- في ذكرى المجزرة..مدرسة بلاط الشهداء وجريمة إيران
- العراق.. حلم اللقاء المتحقق في مرايا النفط والسياسة
- عطرُ حضوركِ
- ريما… الجنون الذي أحببتُه بلا حدود
- اعذريني يا بنت الحرير-


المزيد.....




- عائلات أرجنتينية تبيع ممتلكاتها في أسواق السلع المستعملة لتغ ...
- مسؤول روسي يؤكد إصابة خمسة أشخاص بينهم طفل في هجوم بمسيرة أو ...
- أوغندا.. مصرع أكثر من 40 شخصا في تصادم حافلتين قادمتين من ات ...
- هدم القسم الشرقي من البيت الأبيض لبناء قاعة للرقص بتكلفة 250 ...
- استشهاد طفل في نابلس ومستوطنون يحرقون مركبات برام الله
- تقرير: تزايد الإحباط تجاه إسرائيل في البيت الأبيض
- ترامب يحرج صحفية.. سألته عن إسرائيل بـ-لكنة جميلة-
- مادورو رئيس فنزويلا يتحدث بالإنجليزية ويوجه رسالة الى أمريكا ...
- ليتوانيا تتهم روسيا بانتهاك متهور وصفته ألمانيا بالاستفزاز ا ...
- ستارمر يدعو إلى مزيد من الضغط على روسيا قبل اجتماع لدول -تحا ...


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤجَّلة في زمنِ السياسة