أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الضعف المضيء














المزيد.....

الضعف المضيء


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 11:55
المحور: قضايا ثقافية
    


في الإنسان العربيّ يسكن نصلان متقاطعان؛ أحدهما يشقّ صدره ليخرج من أعماقه صوت الشجاعة، والآخر يغوص في قلبه ليوقظ فيه رعشة الضعف النبيل، ذلك الضعف الذي لا يُرى في هيئة انكسار، بل في صورة ضوءٍ يمرّ من شقوق الجدار ليقول: ما زال القلب قادراً على الإحساس. إنّ الضعف في أدبنا العربي ليس عيباً ولا خيانةً لفكرة البطولة، بل هو الوجه الآخر للقوة حين تنزع عنها رداء الصخب وتعود إلى جوهرها الأول، إلى الإنسان نفسه وهو يتلمّس هشاشته كمن يكتشف سرّ خلوده. فالقوة الحقيقية لا تسكن العضلات ولا السيوف، بل تسكن الاعتراف، وتُقيم في الدمع حين ينحدر في لحظة صدقٍ نادرة.لقد كتب الشعراء عن القوة حتى صارت اللغة تتعب من الأبطال، لكن القليل منهم تجرأ على مدح الضعف، ذلك الضعف الذي يصير فيه الحزن علماً من أعلام المعرفة، والدمعة نافذة إلى وعيٍ أعمق بالوجود. فكم من شاعرٍ بدا ضعيفاً في عشقه، لكنه صنع من ذلك الضعف جسراً إلى الخلود؛ وكم من عاشقٍ انكسر أمام عيونٍ لم تُبَالِ به، لكنه حين كتبها صار أقوى من كل الذين امتلكوا الدنيا. الضعف في الأدب ليس سقوطاً، بل هو توقيع الروح على وثيقة إنسانيتها، لأن من لا يضعف لا يعرف قيمة الوقوف، ومن لا يُجرَح لا يدرك كيف يلتئم الجرح بالكرامة.في الشعر الجاهلي، كان البكاء على الأطلال شكلاً من أشكال القوة، إذ لم يكن الشاعر ينوح على خيامٍ طواها الرمل فحسب، بل كان يُعلن شجاعته في مواجهة الفناء. أن تبكي أمام العدم وأنت بكامل رجولتك الجريحة، ذلك هو الضعف المضيء الذي لا يعرفه إلا أصحاب النفوس الشفافة. وفي التصوف، صار الضعف طريقاً إلى التجلّي، فالمتصوّف لا يبلغ القوّة إلا حين يعترف بعجزه أمام المطلق. إنّ الحلاج حين قال "أنا الحق" لم يكن متكبّراً، بل كان في أقصى حالات ضعفه أمام الله، لكنه الضعف الذي صار قمّة من قمم القوة الروحية.وفي العصر الحديث، حين حمل الشعراء جراحهم كرايات، أدركوا أن الانكسار لغة من لغات المقاومة. السيّاب وهو يئنّ في غربته، ودرويش وهو يكتب "وأنا ضعيفٌ أمام جمالك يا وطني"، كلاهما حوّل الضعف إلى نبوءةٍ شعريةٍ مضادة للزيف. لقد صار الضعف في الأدب العربي المعاصر مرآةً تُظهر ما حاولت القوّة أن تُخفيه: هشاشة الإنسان حين يواجه الأسئلة الكبرى عن الحب والموت والهوية. في هذا الضعف تتولد البلاغة، وتتعافى اللغة من الخطب السياسية الجافة لتعود نغمةً بشريةً تفيض بالعاطفة والصدق.حتى المرأة التي رسمها الأدب العربي بين ضعفٍ وقوة، لم تكن يوماً كما أرادها الرواة. كانت في ظاهرها وديعة، وفي باطنها زلزلة. كانت تبكي في القصيدة لتنتصر في القلب، وتضعف في النص لتقهر التاريخ. إنّ الأنوثة في أدبنا لم تكن ضعفاً يُستغل، بل كانت سحراً يُخضع، لأن في رقّة الورد ما لا تملكه صلابة الحديد. الضعف هنا يصبح فلسفة جمالية: أن تترك نفسك للعاطفة كي تعرف كيف تُحبّ، أن تنكسر أمام الجمال لتكتشف معنى الحرية.وفي الفكر أيضاً، لا تكون القوة في الغلبة بل في التسامح، ولا في الصراخ بل في الصمت الذي يقول ما لا يقال. الضعف، حين يُصاغ ببلاغة، يصير فلسفة وجودية تُعيد تعريف الإنسان خارج مقاييس البطولات الزائفة. إنّ أضعف لحظاتنا هي التي تصنع أعمق معرفتنا بأنفسنا. وما من شاعر أو مفكر أو عاشق إلا وقد خرج من لحظة انهيارٍ وهو أشدّ رسوخاً. إنّ الضعف هو التجربة التي يختبر فيها الإنسان مدى اتساع روحه.الذين يهابون الضعف هم الذين لم يعرفوا بعد معنى الإنسانية، والذين يتصالحون معه هم الذين اكتشفوا أن الكمال كذبة كبرى، وأن الجمال يخرج من العيب كما يخرج الورد من شوكه. فالضعف في جوهره ليس استسلاماً، بل استعداد للنهضة، تماماً كما يلين التراب قبل أن يخرج منه الزهر. إنّ أدبنا العربي، حين يتصالح مع هذا المعنى، سيغدو أكثر نضجاً وإنسانية، لأن القوة وحدها لا تخلّد، أما الضعف المضيء فهو الذي يبقى في ذاكرة الشعراء، وفي وجدان القرّاء، وفي قلب اللغة نفسها التي لا تكبر إلا بدموعها.الضعف، في النهاية، ليس ضد القوة، بل ضد الزيف. هو اعتراف الروح بحقيقتها دون تجميل، وانكشاف الجسد أمام النور دون خوف. ومن يجرؤ على الضعف هو وحده القويّ بما يكفي ليبقى إنساناً.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العاشق الخائف من الرنين
- حديث الظلال.. في فلسفة الفتنة ومكر السلطان
- الآلة التي بكت في صمت الوجود
- لبنان.. مرآة الوجع العربي وسؤال الدولة الغائبة
- الذيولُ والبندقية: مهرجانُ الطوائف في بلادٍ لا تبرح أن تكون ...
- يا امرأةً تمشي على حرير الغواية
- الغيرة الشريفة... فلسفة النقاء في زمن الابتذال
- الشرق الأوسط بين إعادة التوازن وتفكيك النفوذ الإيراني
- في ذكرى المجزرة..مدرسة بلاط الشهداء وجريمة إيران
- العراق.. حلم اللقاء المتحقق في مرايا النفط والسياسة
- عطرُ حضوركِ
- ريما… الجنون الذي أحببتُه بلا حدود
- اعذريني يا بنت الحرير-
- سامي آغا شامي الجيزاني.. ابن البصرة الذي كتب المنافي على جدا ...
- العراق.. جمهورية الجسور المكسورة
- حين بدأ الحب يتفتّت بصمت
- لماذا نجعل دائمًا من هزائمنا انتصارًا؟
- -الخنجر المتكرر… سردية الغدر عبر العصور-
- غزة: أنين الروح المحاصرة
- أنتخبهم… حتى يُباع الوطن في سوق الوهم


المزيد.....




- متحف اللوفر الفرنسي يغلق أبوابه بعد تعرّضه لعملية سرقة.. ماذ ...
- -رقصا معا-.. نجيب ساويرس يعلق على حضور نانسي عجرم مهرجان الج ...
- فرنسا: سرقة مجوهرات -لا تقدر بثمن- خلال عملية سطو استهدفت مت ...
- حاكم دارفور: هجمات الدعم السريع على الفاشر ترقى للإبادة الجم ...
- كييف وموسكو تتبادلان الهجمات بعشرات المسيّرات وحريق بمحطة غا ...
- دراسة: المحيطات تفقد اخضرارها بسبب الاحتباس الحراري
- أهداف المناخ العالمية تتطلب استثمارات أكبر في الطاقة المتجدد ...
- باكستان بين التنين والنسر ولعبة التوازن الصعبة
- مستشار ترامب لأفريقيا يبحث الأمن والازدهار مع قادة بالقارة
- تحذير أممي من أزمة جوع حادة وأفريقيا في الصدارة


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الضعف المضيء