أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه














المزيد.....

الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 10:48
المحور: قضايا ثقافية
    


في دكانٍ صغيرٍ تتناثر فيه رائحةُ الخشب والحديد والزجاج، أعيشُ كلَّ يومٍ مسرحًا من رمادِ وطنٍ مكسور، أُرمِّمُ الطاولاتِ التي انكسرت أرجلُها كما انكسرت أرجلُ المقاتلين على أسوار الخيانة، أُصلحُ المرايا التي فقدت وجهَها كما فقد العراقيون وجوههم حين نظروا في مرايا الساسة والعمائم والتجار، أُعيدُ الحياةَ إلى مقعدٍ أكلَتْه النيرانُ كما أحاول عبثًا أن أُعيدَ الحياة إلى وطنٍ صار رمادًا في كفِّ الريح. أقفُ أمام قطعة زجاجٍ مشعوبةٍ لا تُريد أن تلتئم، أنفخ فيها من وجعي وأقول لها: "عودي إلى نفسكِ يا جميلة، فالعراقُ أكبر من شُعوبِ الكسر." فتبتسمُ من خلفِ صمتها وتقول: "بل أنتم من كُسرتم يا بنيّ، أنتم من صدّق أنَّ المذهبَ وطنٌ، وأنَّ العمامةَ عقل، وأنَّ الرصاصةَ إيمان، وأنَّ من خانكم يُمكن أن يُعيد بناءكم."أُحادثُ الزجاجَ كلَّ صباحٍ كما يُحادث المتصوفُ مرآته في آخر الليل، أسأله عن معنى الصبر، فيقول لي: "الصبرُ أن تبقى واقفًا حتى حين تنهارُ الجدران، أن تصحو بعد كل انكسارٍ لتقول: لا زلتُ حيًّا رغم الخراب." أراهُ شفافًا كالحق، هشًّا كالأمل، صادقًا كالموت، وفي انكسارهِ مرآةُ العراقِ نفسه، وطنٌ عظيمٌ يرمّمه أبناؤه كلَّ يومٍ، بينما يعيد العملاءُ خَرقَه بأيديهم.حين يمرُّ الزبائنُ إلى محلي، أرى وجوهًا تروي لي قصصها دون أن تتكلم: وجهُ عاملٍ فقد حلمه فصار يشتري كرسيًّا مكسورًا ليُقنع نفسَه أن في الترميم خلاصًا، وجهُ امرأةٍ انهكها الفقرُ فصارت تبيع خاتمَ زواجها لتطعمَ أطفالها، ووجوهُ الذين مرّوا إلى الثراء من دهاليز الفساد، يبتسمون لي ابتسامةً مُطلية بالعار، أرى في عيونهم خيانةَ النفط والماء والتراب، أرى كيف غسلت المصارفُ الأجنبيةُ أموالهم كما يُغسلُ الجسدُ من الدمِ بعد الجريمة، كيف صاروا وكلاءَ للسارقين وبروكراتٍ يُعيدون تدويرَ الخراب تحت لافتة الإعمار.حين أُصلحُ الزجاجَ المكسورَ، أرى في انعكاسهِ بنادقَ الذيول الذين مزّقوا الأرض باسم الطاعة، وفتاوى ملعونةٍ شرّعت الدم، وقلوبًا خربةٍ تصرخُ من منابرِ النفاق: "الله أكبر"، بينما تُخفي خلف التكبير صفقةً جديدةً، ورقبةً تُذبحُ باسم العقيدة. أرى في الزجاجِ قببَ سامراء وهي تُهدم، والبيوتَ وهي تئنّ تحت أنقاض المذهبية، أرى كيف سُرِقت الروحُ من هذا الوطن تحت مسمّياتٍ تلمعُ كما تلمعُ السكاكينُ قبل الطعن، وكيف صار الموتُ وجهًا مألوفًا في المدن، وأسماء الشهداء تملأ الجدران دون أن يُسأل القاتلُ عن معنى الوطن.أقول للزجاج: "هل نحنُ جبناء؟"، فيردُّ عليّ كمن يقرأ التاريخ من لسان الحِكمة: "العراقي لا يُولدُ جبانًا، إنه ابنُ أولِ من خطَّ الحرفَ، وأولِ من علّمَ العالمَ معنى الطبِّ والزراعة والفلك، ابنُ حضارةٍ رأت النورَ قبل أن تعرف الأرضُ معنى الغروب، لكنهُ ابتُليَ بدخلاءٍ سكنوا بين ضلوعه، عُملاءَ باعوا شرفهم للأجنبي بثمنِ النكاح السياسيّ، وانحنوا تحت لافتة الدينِ المزيف ليغطّوا عوراتهم بالفتاوى."
تأملتُ الزجاجَ طويلاً، فرأيتُ فيه صورةَ العراق كما هي: نصفُها مكسورٌ، ونصفُها يقاتلُ كي لا ينكسر، رأيتُ فيه تاريخَ من عاشوا على وجعٍ واحدٍ منذ الأكديين حتى البصرة الحديثة، منذ سُفُرِ التكوين إلى آخر نشرة أخبارٍ في المساء، رأيتُ كيف يُعاد تدويرُ الخيانة في كلِّ عهد، وكيف يلبسُ الخائنُ ثوبَ المخلّص، وكيف يصفقُ له الجائعُ لأنه لم يعد يفرّق بين الخبز والكرامة.يا وطني، يا زجاجي الكبير، كم مرةً رمّمتُكَ ولم تلتئم، وكم مرةً صدّقتُ أنَّ الحُبَّ وحدهُ كفيلٌ بإحياءِ المدن، لكنّهم قتلوا الحُبَّ في صدورنا كما قتلوا المعنى في كلماتنا، صار الشاعرُ متَّهَمًا، والمثقفُ مُلاحقًا، والعاقلُ يُعدُّ خائنًا لأنّه رفضَ التصفيقَ للخراب. وحين سألتُ الزجاج: "هل نُفيقُ يومًا؟"، أجابني: "نعم، حين يعرفُ العراقي أنَّ الوطنَ لا يُشترى بالهويّة، وأنَّ الدينَ لا يُختصرُ في لحيةٍ أو شعار، وأنَّ الكرامةَ لا تكونُ بندقيةً بل ضميرًا لا ينام."
سيأتي يومٌ – وأنا أؤمن به كما يؤمن الزجاجُ بنورِ الشمس – يومٌ يعود فيه العراقي إلى جذره الأول، إلى لحظةِ النور التي خرج منها الخطُّ المسماريُّ من تحت أصابعه، يومٌ تُغسل فيه الأرضُ من شوائب الخونة كما يُغسل الجرحُ بماءٍ مُرٍّ لكنه يُطهّر، يومٌ تُعادُ كتابةُ الدفاتر لا بحبرِ النفط بل بدموعِ الذين أحبّوا هذا البلد ولم يساوموا عليه.سوف يُبعث العراقُ من تحت الركام، كما يُبعث الزجاجُ من شظاياه، سيلتئم حين نكفّ عن انتظار الخلاص من الغرباء، وحين نكفّ عن بيعِ الذلِّ على أنهُ حكمة، وعن تجميلِ العبوديةِ باسم الواقعية، سيلتئم حين نرى في كلِّ جرحٍ طريقًا إلى النور، وفي كلِّ صمتٍ بذرةَ نهوضٍ جديدة.
أما أنا، العاملُ في محلٍّ صغيرٍ للأثاث والسكراب، فسأبقى أصلحُ ما يمكن إصلاحه، لا لأنَّ الزجاجَ سيعود كما كان، بل لأنَّ كلَّ ترميمٍ لقطعةٍ مكسورةٍ هو فعلُ مقاومةٍ ضدَّ عالمٍ يريدنا أن ننكسر. سأبقى أُحادثُ الزجاجَ حتى يفهمَ الناس أنَّ في الصنعةِ فلسفةً، وفي الترميمِ كرامةً، وفي الشظايا وطنًا ينتظرُ من يُعيد إليه صورته القديمة.وهكذا يظلُّ الزجاجُ مرآةَ الوعي، والوطنُ مرآةَ اللهب، والإنسانُ الذي لا يتعلّمُ من الكسر، سيبقى يدورُ حول نفسهِ كما يدورُ البرغي الصدئ في لوحٍ منسيٍّ في زاوية التاريخ.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم
- تُناجي الأطلالُ غريبَها
- الضعف المضيء
- العاشق الخائف من الرنين
- حديث الظلال.. في فلسفة الفتنة ومكر السلطان
- الآلة التي بكت في صمت الوجود
- لبنان.. مرآة الوجع العربي وسؤال الدولة الغائبة
- الذيولُ والبندقية: مهرجانُ الطوائف في بلادٍ لا تبرح أن تكون ...
- يا امرأةً تمشي على حرير الغواية


المزيد.....




- هذا ما تضمنه دليل -لونلي بلانيت- لأفضل وجهات السفر لعام 2026 ...
- لمسة من المخمل والبريق..هكذا أطلّت إيفا لونغوريا في لوس أنجل ...
- تحطم مروحية ومقاتلة أمريكية في بحر الصين الجنوبي.. وترامب يع ...
- كيتي سبنسر بفستان ذهبي وقلادة ضخمة في موناكو
- -شاهدت هاتفي المسروق يتجه إلى لندن ودبي والصين-
- مناورات أم تمهيد للحرب؟ فنزويلا تضبط -مرتزقة- وتصف تحرّكات ا ...
- بعد قمة آسيان... ترامب يصل إلى طوكيو لإجراء محادثات تجارية و ...
- أوزمبيك يساعد القلب بغض النظر عن مقدار الوزن المفقود
- اتهامات للدعم السريع بارتكاب -مجزرة مروعة- في كردفان
- هل تندلع حرب بين أوروبا وروسيا خلال ألف يوم؟


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه