أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد المنطقة














المزيد.....

الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد المنطقة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 02:16
المحور: قضايا ثقافية
    


الحرب حين تندلع لا تسأل عن الأسباب، بل تلتهمها كما تلتهم النار جذوع الحطب، تحوِّل المنطق إلى رماد، وتُخرِس اللغة أمام صراخ المذابح. والسودان اليوم ليس سوى مرآة دامية تُعيد إلى الوعي العربي صورًا قديمة من الجنون البشري حين يتزيّن بالسياسة ويختبئ وراء الشعارات. هناك في الفاشر ودارفور والخرطوم، يتعالى غبار الحرب فوق أرواح المدنيين، كأنَّ التاريخ يعيد نفسه في نسخته الأكثر قسوة، حيث لم يبقَ في الأفق غير دخان المدن المنكوبة ورائحة الدم المتخثّر على الإسفلت.قوات الدعم السريع التي نشأت من رماد الميليشيات القبلية تحوّلت إلى آلةٍ عمياء، تمارس القتل كما لو كان طقسًا مقدّسًا، تذبح المستشفيات وتغتصب النساء وتُحرّق القرى على ساكنيها، وكأنَّ الإنسان قد نُزعت منه آخر ذرّة من إنسانيته. لا فرق هناك بين الطفل والمقاتل، بين امرأةٍ تبحث عن الماء ورجلٍ يبحث عن النجاة، فالجميع صاروا هدفًا في رقصة الجنون التي تدور على إيقاع الجوع والخوف والرصاص. الحرب في السودان ليست حربًا بين قوتين عسكريتين فحسب، بل هي انحدار جماعي نحو هوّةٍ أخلاقية يتواطأ فيها السلاح مع الصمت، والمال مع الخيانة، والإعلام مع الزيف.لكن المأساة لا تنحصر في حدود السودان؛ فخيوطها تمتد إلى العواصم البعيدة التي تموّل وتسلّح وتغذّي هذا الجحيم من وراء حجابٍ باردٍ من البيانات الدبلوماسية. فالإمارات، بما تملكه من نفوذ مالي وإقليمي، أصبحت في قلب الاتهامات بدعم قوات الدعم السريع تسليحًا وتمويلًا وتغطيةً سياسية، كأنها تشارك في هندسة الخراب لا في إخماده. إنّ الحرب اليوم لا تُخاض بالسيوف، بل تُدار من الشاشات، من الغرف الزجاجية التي تُراقب الخرائط وتوزّع الموت بأصابع ناعمة لا تعرف الدم، تُموَّل الحروب كما تُموَّل المشاريع، ويُدار الدمار كما تُدار التجارة، ليغدو الوطن سلعةً في سوق المصالح.وما يحدث في السودان ليس نزاعًا محلّيًا، بل جزء من لعبة النفوذ في إفريقيا والبحر الأحمر، حيث تتقاطع مصالح الخليج وروسيا وتركيا والغرب على أرضٍ واحدة، بينما الشعب السوداني يُدفن كل يومٍ تحت الركام دون أن يُسأل عن رأيه أو عن حقّه في الحياة. إنها حرب الوكلاء بامتياز، يشارك فيها المال الخليجي، والسلاح الروسي، والطموح التركي، والمصلحة الغربية، ليُترك السوداني وحيدًا في مواجهة مصيره، بين مطرقة الميليشيا وسندان التجاهل الدولي.
تأثير هذا الصراع يتسرّب إلى الجوار كعدوى روحية، فكل حربٍ تترك في الجغرافيا ندبةً لا تندمل، وتُعيد إلى الشعوب المجاورة إحساسها بالخطر وبالهشاشة وبأن العالم بات بلا مركزٍ أخلاقي. المنطقة العربية الممتدة من العراق إلى اليمن، ومن سوريا إلى السودان، تعيش زمن الحروب المتناسخة، حيث لا يموت النزاع، بل يتبدّل شكله واسمه وممولوه، فيما الجثث هي ذاتها في كل مكان. لم تعد الدماء تصدم أحدًا، بل غدت روتينًا يوميًا في نشرات الأخبار، حتى صار الموت مجرّد إحصائيةٍ في تقارير الأمم المتحدة.
الفلسفة في الحرب تكشف أنّ الإنسان، مهما بلغ من الحضارة، ما زال يحمل داخله وحشًا قديمًا ينهض حين تختنق العدالة وتُكمم الكلمة. إنها لحظة سقوط القيم في امتحانها الأخير، حين تُختزل الأخلاق في المصالح، والرحمة في بياناتٍ سياسية، والدم في لغة الأرقام. الحرب في السودان ليست مجرد معركة بين جيشين، بل معركة بين الإنسان وظلّه، بين ما تبقّى من الضمير الإنساني وما استحال آلةً للدمار.وحين تبارك بعض الأنظمة هذا الخراب أو تصمت عليه، فإنها تشارك في جريمةٍ معنويةٍ تتجاوز حدود الجغرافيا. الإمارات ليست وحدها في هذا الدور، لكنها النموذج الأوضح في توظيف المال والنفوذ لبناء كياناتٍ مسلّحة تُستخدم كأدواتٍ في صراع القوى، دون اعتبارٍ لدماء الأبرياء أو لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. في دارفور قُصفت القرى بطائراتٍ مُسيّرة، وفي الخرطوم تحوّلت المستشفيات إلى مقابر، وفي الغرب تُباع الأسلحة باسم “الاستقرار الإقليمي”، بينما الأرض تحترق والسماء تنزف.هكذا تتحول الحرب إلى سؤالٍ فلسفيٍّ مرّ: هل يملك الإنسان حقّ الحياة أم أن هذا الحق صار امتيازًا لمن يملك المال والسلاح؟ هل ما زال للضمير مكانٌ في عالمٍ تُدار فيه المآسي عبر بياناتٍ باردةٍ تفتقد الروح؟ السودان اليوم يذكّرنا بأن الجغرافيا العربية ما زالت تدور في مدار الألم، وأن الصراع حين يُدار بالمال لا ينتج إلا موتًا طويلًا بلا معنى. وما لم تتطهّر المنطقة من نفاقها السياسي، ستظل الحرب تتنقّل من بلدٍ إلى آخر، تضع تاجها الأسود على الخراب، وتعلن بصوتٍ باردٍ أن الإنسان، رغم كل ما بناه، لم يتعلّم بعد كيف يكون إنسانًا.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم
- تُناجي الأطلالُ غريبَها
- الضعف المضيء
- العاشق الخائف من الرنين


المزيد.....




- -الدعم السريع أطلقوا النار على أولادي أمام عينيّ-، بي بي سي ...
- كأس ألمانيا.. شتوتغارت يعبر بثبات وليفركوزن يتأهل بشق الأنفس ...
- اعتداءات للمستوطنين بالضفة والاحتلال يقرر بناء 1300 وحدة است ...
- احتجاجات في دوالا الكاميرونية بعد رفض زعيم المعارضة فوز بيا ...
- واشنطن تدين العنف في السودان ودعوات لعدم الاعتراف بالحكومة ا ...
- محللون: أميركا تساعد إسرائيل على قتل الفلسطينيين تحت مظلة وق ...
- -بيقولي الولد مات.. مش في هدنة!- غزي يصرخ مفجوعا بوفاة طفله ...
- حظر تجول في عاصمة تنزانيا عقب انتخابات شهدت أعمال عنف
- -حميدتي- يتأسف لأهل الفاشر ويتعهّد بتوحيد السودان
- غزة:هل انهار اتفاق وقف إطلاق النار؟


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد المنطقة