أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد














المزيد.....

حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 15:54
المحور: قضايا ثقافية
    


في الخالص، حيث كانت الكلمات تُصاغ بمداد الروح، وحيث نَفَسُ اللغة لا يزال يتردد في الأزقة القديمة، مدّ أحدهم يده الجاهلة إلى ذاكرة مدينةٍ كانت تُنجب الضاد كما تُنجب الأمّ أبناءها، فهدم تمثال مصطفى جواد، وكأنّه يهدم نحواً بكامله، أو يدفن قاموساً في التراب. يا لسخرية الزمن، حين يغدو المثقف تمثالاً مهدوماً، والجهلُ هو الذي يُنصّب نفسه مصلحاً للذوق العام!..لم يكن تمثال مصطفى جواد مجرد نحاسٍ مصبوب على هيئة رجلٍ وقورٍ بعمامةٍ عراقية الطابع، بل كان تجسيداً لضمير اللغة، وذاكرة الأمة التي كانت تُقدّس العقل، قبل أن يُصاب العقل بداء الغياب. لقد نُحت من فكرٍ قبل أن يُنحت من برونز، ووقف في الساحة كما يقف الحرف في فم قصيدةٍ عصيّة على التكرار، ثم جاء زمنٌ، لا يعرف من اللغة إلا شتائمها، ولا من التاريخ إلا نفاياته، ليهدم التمثال باسم الإصلاح أو بحجة الترميم أو بدافع الحقد الصامت على المعرفة.أيةُ مدينةٍ هذه التي تُهدم رموزها كما تُهدم آمالها؟ أيةُ أمةٍ هذه التي تُصفّق لهدم عقولها وتبني نصباً للفراغ؟ أفي الخالص التي شرفها الجواد بعلمه، يُهدم وجهُه الحجري؟ أفي أرضٍ علّم رجالها النحو والصرف والفقه تُقترف هذه الجريمة النحوية الكبرى؟ ما أشبهنا ببيتٍ نُزعت أبوابه وترك للريح تفسيره!..كان الجواد في حياته يعلّمنا أن اللغة ليست حروفاً فحسب، بل أخلاقٌ، وأن الوطن ليس تراباً فقط، بل ذاكرة تسكن الأشياء. وها نحن نهدم ذاكرته، ونظن أننا نزيّن الشوارع من الغبار، فإذا بنا نكنس أنفسنا من سجل التاريخ. كيف نُعلّم أبناءنا معنى الوطن إذا كان الوطن نفسه يدفن رموزه؟ كيف نكتب حرف الضاد ونحن نمحو من كتبنا من نذر عمره ليحميه؟..أيها الهادمون بلا وعي، هل سمعتم يوماً بمصطفى جواد؟ أم أنكم تظنون أنّ النحو اختُرع في "التيك توك" وأنّ البلاغة تخرج من مقاطع السخرية؟ ليت التمثال تكلم ساعة الهدم، لقال: "صحّحوا جملتكم أولاً قبل أن تهدموا لغتي!"، لقال بتهكمه الجميل: "إنّ من لا يعرف إعراب الوطن، لا يعرف أن يبنيه!"، لربما ابتسم من عمق البرونز وقال: "أنا لا أُهدم، لأنّي فكرة، والفكرة لا تُكسر إلا في رأس الجاهل."..في هذا الزمن الذي أصبح فيه الجهلُ ثقافةً والشهرةُ معياراً، صار التمثال العارف غريباً في مدينته. إن هدم الجواد ليس عملاً مادياً فحسب، بل إعلان حرب على الذاكرة. نحن لم نهدم تمثالاً، بل هدمنا احترامنا للعلماء، وهدمنا آخر ما تبقّى من لغةٍ كانت تصنع الهيبة في الكلام.المدن التي تهدم رموزها، كالأمّ التي تقتل ابنها خوفاً من الجوع، ثم تبكي على قبره لأنها صارت وحيدة. والخالص اليوم تبكي، لا لأنّ حجراً سقط، بل لأنّ روحاً كانت تسكن ذلك الحجر صعدت، وتركتنا لفراغٍ ثقافي لا يملأه سوى الضجيج.مصطفى جواد لم يمت، لم يُهدم، ولم يُنسَ. كل من يحفظ لغته يحفظه، وكل من ينطق بسلامة الضاد يوقّع على بقاء تمثاله في القلب. أما أنتم يا هادمي التماثيل، فابنوا لأنفسكم تماثيل من طين الجهل، وضعوها في الميادين التي نُزعت منها الفكرة. ربما حينها ستعرفون أن التمثال الحقيقي لا يُصنع من حجر، بل من فكرٍ صلبٍ لا يُهدم.سلامٌ على الجواد في عليائه، وعلى كل عقلٍ شريفٍ رفض أن يكون صامتاً في زمن الصمت. وسلامٌ على الخالص التي أنجبت علماً فهدمها جهلها، وسلامٌ على كل تمثالٍ ينتظر أن يُعاد إليه معناه. فالهدمُ لا يقتل الرموز، بل يفضح من لا يليق بهم أن يروها واقفة. والتاريخ سيبقى يكتب ـ بلسان الجواد نفسه ـ أن أمةً هدمت لغتها، فهدمت نفسها، وأن الحجر الذي نُصِب يوماً في الخالص، كان أكثر وعياً من الذين مرّوا أمامه دون أن يقرؤوا اسمه.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم
- تُناجي الأطلالُ غريبَها
- الضعف المضيء
- العاشق الخائف من الرنين
- حديث الظلال.. في فلسفة الفتنة ومكر السلطان


المزيد.....




- لقطات مخيفة تظهر انهيار عدة منازل إثر ارتفاع المد بسبب الأعا ...
- سباق السلطة في هولندا: الملايين يقترعون في انتخابات مبكرة
- بعد 23 عاما من الاستقلال: تيمور الشرقية تنضم إلى رابطة دول ج ...
- مقتل أكثر من مئة فلسطيني بينهم 35 طفلا بالقصف الإسرائيلي عل ...
- هل يصمد وقف إطلاق النار في غزة؟
- كاتب إسرائيلي: هكذا أضعف نتنياهو سيادة القانون
- طائرات الاحتلال تقصف مربعا سكنيا في مخيم الشاطئ بغزة
- واشنطن وبكين تتفقان على تهدئة تجارية مؤقتة قبل قمة الرئيسين ...
- إعصار ميليسا يضرب سواحل كوبا بعد أضرار جسيمة خلفها في جامايك ...
- التقاعس عن مواجهة الاحترار المناخي يتسبب بملايين الوفيات بحس ...


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد