أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الرب الذي هرب من معبده














المزيد.....

الرب الذي هرب من معبده


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 21:56
المحور: قضايا ثقافية
    


في زمنٍ امتلأت فيه المعابدُ بالضجيج وخلَت القلوبُ من النور، يصبح الهروبُ فعلَ تطهيرٍ، ويغدو الربُّ رمزًا للصفاء الذي فقدناه. هذا النص لا يتحدث عن العقيدة بقدر ما يصرخ في وجه الإنسان الذي شوّه وجه الإيمان، يحاول أن يوقظ فينا الله الذي يسكن القلب لا الحجر، والرحمة التي تنبض في العيون لا في المواعظ.هرب الربُّ من معبده في فجرٍ لم ينتبه له أحد، ترك المذبح وحيدًا يئنّ، والأجراس تذوب في صدى لا يسمعه سوى من تاه عن اليقين. خرج من الباب الخلفي للمقدس، متخففًا من أثواب المجد واللاهوت، متعبًا من رائحة البخور التي غطّت الدم، ومن التراتيل التي تُتلى بأفواهٍ لا تعرف طعم الطهارة. كان يسمع الدعاء يعلو باسمه، لكنه لا يجد بين الأصوات قلبًا صادقًا، وكان يرى الركوعَ في المعبد، ولا يرى الخشوع في الضمير.هرب الربّ لأنهم صنعوا من اسمه رايةً للحروب، ومن رحمته سيفًا، ومن جنّته جائزةً للفناء. هرب لأنه لم يعد يرى وجهه في المرايا التي رفعوها له، ولأن الكهنة نسوا أن الصلاة ليست تجارة، بل دمعة. ترك الأبواب مفتوحة والشموع منطفئة، ومضى إلى العالم كما لو أنه يبحث عن نفسه التي أضاعها فينا.
وجد الرب مأواه في قلب أمٍّ تُرضع طفلها وهي لا تعرف أن فعلها صلاة، وفي يد فقيرٍ يطعم جائعًا دون أن يسأل عن مذهبه، وفي نظرة عاشقٍ يقدّس الحبيب كأنه يصلي دون محراب. وجد نفسه في زهرةٍ تنحني للريح لا خوفًا بل حبًا، وفي طائرٍ يغنّي دون لحنٍ محفوظ، وفي طفلٍ يرسم الشمس وهو لا يعرف أن الضوء وجهه القديم.بكى الرب في رحلته، بكى على الإنسان الذي صار يخافه بدل أن يحبّه، وعلى القلب الذي أغلق بابه بوجه النور، وعلى المعابد التي كبرت جدرانها وضاقت أرواحها. بكى لأنه رأى نفسه يُستدعى لتبرير الدم، ويُذكر لتثبيت العروش، ويُنسى حين يصرخ الجائع في الشارع. بكى لأنه صار رمزًا للخوف بعد أن كان وعدًا بالطمأنينة.
لم يهرب الرب من البشر، بل من زيفهم. لم يتركهم كرهًا، بل شفقةً. أراد أن يطهر اسمه من لعناتهم، وأن يغسل صوته من ضجيجهم. لقد اشتاق إلى الإنسان الأول، ذاك الذي كان يكلمه كما يكلم الصديق صديقه، لا كما يناجي الخائف معبوده. اشتاق إلى أول لمسة حبٍّ على الطين، إلى أول ضوءٍ مسّ جبين الخليقة قبل أن تغمسه الأديان في الظلال.الآن، الرب يعيش خارج المعبد، في الصمت، في الجمال، في الرغيف الذي يُكسر بالمحبة، في الدمع الذي يُسقى للغائبين، في ضحكة الطفل التي لا تعرف الكراهية. إنه يسكن فينا متى ما صدقنا، ويغيب عنّا متى ما ادّعينا. لا يسكن القباب ولا الأضرحة، بل القلوب التي ما زالت طريّة بالإنسانية.وحين عاد الكهنة يبحثون عنه، وجدوا المعبد بارداً، والمذبح خاوياً، والسماء ساكنةً ككتابٍ أُغلق منذ قرون. قال أحدهم: لقد غاب الرب عن أرضنا! وقال آخر: لعله غضب منا! لكن امرأةً كانت تمرّ حاملةً طفلها، رفعت رأسها نحو النور وقالت بصوتٍ مبلّل بالدمع: لا، لم يغِب… لقد عاد إلى مكانه الأول، إلى قلب الإنسان.الرب لم يهرب من معبده، بل من أقفاصنا نحن. هرب من الزيف ليعلّمنا الصدق، من الطقوس ليذكّرنا بالجوهر، من الكتب ليعود إلى الحرف الأول الذي كتبه بالحب. الرب الذي هرب من معبده لم يمت، بل عاد إلى رحم الوجود، إلى دمعةٍ تلمع في عيون من يعرف أن الإيمان لا يُورَّث، بل يُحسّ.
الرب هناك، في الجهة التي لا يصل إليها الكهنة… في الصدور التي لم تنطفئ بعد، في الحنين الذي يشبه الصلاة، في القلب الذي ما زال يبكي وهو يقول: "عد إلينا كما كنا أول الخلق، قبل أن نخطئ بالظن أنك بعيد."



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء
- الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي


المزيد.....




- تقرير يكشف عتاد أمريكا بحربها ضد زوارق تهريب المخدرات
- قطار لا يسير على سكّة بل يتدلى منها..عراقي يوثق تجربة فريدة ...
- غارات إسرائيلية على بيت لاهيا شمال قطاع غزة.. أزمة مقاتلي حم ...
- تحطم طائرة شحن عسكرية تركية في جورجيا يودي بحياة عشرين جنديا ...
- تحول الفاشر.. السودان بين التقسيم والتصعيد
- ما تمويل المناخ وكيف يخطط العالم لدفع تكاليفه؟
- خبير توظيف: 10 مهارات تحميك من خطر الذكاء الاصطناعي
- بريطانيا تعلق التعاون الاستخباراتي مع أميركا في الكاريبي
- مقتل 20 عسكريا في تحطم طائرة شحن تركية بجورجيا
- -معجزة طبية-.. أميركية وُلدت بلا دماغ تحتفل اليوم بعيدها الـ ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الرب الذي هرب من معبده