أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - على عتبة الغياب














المزيد.....

على عتبة الغياب


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8517 - 2025 / 11 / 5 - 11:49
المحور: قضايا ثقافية
    


كان الليلُ في تلك المدينة الفقيرة يمتدّ كجرحٍ مفتوحٍ على جسد الأرض، وكانت الأرصفة تبكي في صمتٍ لا يسمعه أحد. كان العائد من التيه يحمل في جيبه بقايا حلمٍ قديم، وبضع كلماتٍ كتبها على ورقٍ مبلولٍ بالمطر، لا يدري إن كانت صلاةً أم وصيّةً أم نشيدًا مكسورًا لرجلٍ فقد ملامحه في زحام الخيبات. اسمه لم يعد يعنيه، فالأسماء هناك تُنسى سريعًا كما تُنسى وجوه الجياع في طوابير الخبز. كل ما كان يعرفه أنه عاش طويلاً وهو يبحث عن وطنٍ يسكنه فلا يجد سوى وطنٍ يسكن فيه وجعه.
في الأزقّة الضيّقة التي تتهامس فيها الأرواح كأنها أشباح الذاكرة، كان يسير كظلٍّ يبحث عن نفسه. ترك وراءه بيتًا من طين، وأمًّا تبكي على صغارها الذين ابتلعتهم المدن البعيدة، وامرأةً أحبّها حدّ الجنون ثم تركها لأن الفقر كان أقوى من الحلم. لم يكن الفقر في جيبه فحسب، بل في صمته، في كبريائه، في تلك المسافة الطويلة بين ما يريد وما يستطيع.تعلّم أن الجوع ليس وجبةً ناقصة، بل غياب الكرامة. وأن الغربة ليست في البلاد، بل في العيون التي لا تراك. كلّما حاول أن يكتب عن نفسه، وجد أنّ قلمه يكتب عن الآخرين، عن أولئك الذين يسيرون مثله حفاةً في دروبٍ لا تنتهي، يبحثون عن دفءٍ في زمنٍ صار فيه الحبُّ ترفًا لا يُشترى إلا بالدَّين.ذات مساءٍ، جلس قرب نهرٍ جافٍّ، وألقى حجرًا في الوهم. قال: “يا رب، لمَ خلقت هذا القلب ليتسع لكل هذا الشوق؟ ولماذا أعطيتني عيونًا تذكّرني بكلّ من رحلوا؟”. لم تأته الإجابة، فقط سمع صدى صوته يرتدّ كأنّه يسخر منه. مدّ يده إلى الماء، فلم يجد إلا الطين. تذكّرها… تلك التي وعدته بالانتظار، ثم تزوّجت من رجلٍ لا تحبّه لتنجو من الفقر. ابتسم، ثم قال: “حتى الحبّ صار صفقةً تُدار بالعقل، لا بالعاطفة.”
في الليل، حين تنام المدن وتفيق الأرواح، كان يشعر أنّه الوحيد المستيقظ في هذا الكون. الوحدة كانت أعمق من أن تُروى، كانت حفرةً في صدره، وكان يخاف أن يسقط فيها إلى الأبد. كتب في مذكّرته: “الغربة لا تبدأ عندما تهاجر، بل عندما لا تجد قلبًا يفهمك.”مرت السنوات كأطيافٍ رمادية، لا تحمل سوى التكرار. عمل في الموانئ، في الحقول، في المصانع، وغنّى في الأزقّة كمتسوّلٍ للحياة. كان الناس يمرّون حوله كأنهم لا يرونه، وكلّما حاول أن يبتسم، خنقه السؤال: “هل تستحقّ الحياة كلّ هذا العناء؟”. ومع ذلك، كان في داخله طفلٌ صغيرٌ يرفض أن يموت، يوقظه كلّ صباحٍ بحلمٍ جديد، ثم يخذله كلّ مساءٍ بالواقع ذاته.
في إحدى الليالي، حين أرهقه الصمت، قرّر أن يكتب آخر رسالةٍ له إلى العالم، قال فيها:
“أيّها الناس، لم أعد أطلب منكم شيئًا. لا أريد مالًا ولا وطنًا ولا اعترافًا. أريد فقط أن تفهموا أنّ الفقراء ليسوا مذنبين، وأن المتشرّدين لم يختاروا النوم على الأرصفة حبًّا بالسماء، وأن الذين يكتمون وجعهم ليسوا أقوياء، بل خائفون من مزيدٍ من الانكسار. أريدكم أن تعلموا أنّ الحبّ لا يُباع في الأسواق، وأن من يحبّ بصمتٍ إنسانٌ لا يقلّ عظمةً عن الأنبياء.”ترك الرسالة على عتبة بابٍ مهجور، ومشى في الظلام. كان المطر قد بدأ يهمي خفيفًا كأن السماء تبكي عليه. لم يعد أحد يراه، لكن بعض العابرين قالوا لاحقًا إنهم رأوا رجلاً يسير في المدى مبتسمًا كمن وجد طريقه أخيرًا.وفي الصباح، حين أشرقت الشمس على المدينة، وُجدت الرسالة وقد جفّ عليها المطر، فقرأها صبيٌّ يبيع الجرائد، وبكى دون أن يعرف لماذا. ربما لأن الكلمات تشبهه، أو لأن الوجع يعرف أبناءه أينما وُجدوا.لكن القصة لم تنتهِ عند تلك الورقة المبتلّة، بل بدأت بعدها حكاية أخرى، أكثر غرابةً من الحياة ذاتها. ففي تلك الليلة التي غاب فيها الرجل، لم يمت كما ظنّ الجميع. كان يسير في طريقٍ لا ينتهي، طريقٍ لم ترسمه الخرائط ولم تصفه الكتب. بدا كل شيء غريبًا، لا ليل هناك ولا نهار، لا فقر ولا خوف، فقط هدوءٌ يشبه ما بعد البكاء.
وقف أمام بوابةٍ من نور، فسمع صوتًا يسأله: “من أنت؟..”أجاب بعد صمتٍ طويل: “أنا من حاول أن يكون إنسانًا.”فقال الصوت: “وهل نجحت؟”..ردّ مبتسمًا: “لا أدري، لكنني لم أتوقف عن المحاولة....”فانفتح الباب، ودخل.لم يكن في الجهة الأخرى فردوسٌ ولا جحيم، بل مدينة من الضوء، فيها كلّ الذين أحبّهم وخسرهم، كلّ من مرّوا في حياته كنسمةٍ ثم غابوا. رأى أمه تبتسم له، والمرأة التي أحبّها تمدّ له يدها بلا خوفٍ من الفقر. لم يكن بحاجةٍ إلى الكلام، فالقلب هناك يتحدّث وحده.لكن رغم كلّ السكينة التي أحاطت به، ظلّ يشعر بأن شيئًا ناقصًا. سأل نفسه: “لماذا لا أكتمل؟” فأتاه الجواب من داخله: “لأنك ما زلت تحبّ الحياة رغم كلّ وجعها.” أدرك حينها أن الغياب لا يُلغي الحنين، وأن الأرواح التي ذاقت الوجع لا تشفى منه حتى في الضوء.
نظر إلى الأرض البعيدة، إلى المدينة التي تركها تتألم تحت غبار الفقر. قال: “أريد أن أعود، لا لأعيش، بل لأُذكّر الناس أن الوجع ليس نهايةً، بل بداية وعي.” سُمح له أن يعود، لا بجسده، بل بروحه. ومنذ تلك الليلة، كان العابرون في الطرقات المظلمة يشعرون بصوتٍ خافتٍ يهمس لهم في أوقات الانكسار: “اصبر، فكل وجعٍ يولد منه معنى.”
ومنذ ذلك الحين، قيل إن المدينة بدأت تتغيّر. صار الناس أكثر طيبة، وصار الجوع أقلّ قسوة، وصار الحلم يعود شيئًا فشيئًا إلى الوجوه. لم يعرف أحدٌ مصدر هذا التحوّل، لكنّ الصبيّ الذي وجد الرسالة أقسم أن الرجل لم يمت، بل صار روحًا تُضيء العتمة كلّما عمّ الظلم.وهكذا، ظلّت قصته تتناقلها الألسن جيلاً بعد جيل، كأنها صلاة للمنهكين.قصة رجلٍ قاتل بالحبّ، ودفن وجعه في الكتابة، وغاب جسده ليبقى أثره، شاهداً على أن الإنسان يمكن أن يُهزم ألف مرة، ولا يسقط إلا حين يتوقف عن الحلم.
كان اسمه مجهولاً، لكنه صار رمزًا.
كان فقيرًا، لكنه أغنى القلوب بما ترك من معنى.وكان غريبًا، لكنه صار وطنًا لكلّ من أضاع طريقه إلى نفسه.وفي آخر سطرٍ من سيرته، كُتب:“إن الذين يرحلون بصمتٍ لا يختفون… بل يتحوّلون إلى نبضٍ يسكن في الذين عرفوا طعم الغربة، ووهج الحب، ومرارة نكران الذات.”



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء
- الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي


المزيد.....




- السعودية.. ضبط 3 وافدين لممارستهم -الدعارة- في شقة بالمدينة ...
- لماذا يهتم العرب بفوز زهران ممداني لعمدة مدينة نيويورك؟
- فيديو - إعصار -كالمايجي- يغمر وسط الفلبين ويتسبب في مقتل الع ...
- حريق مروّع في دار مسنين بالبوسنة يودي بحياة 11 شخصاً ويصيب ا ...
- وسط مخاوف متزايدة.. حرب السودان تنذر بـ-فوضى عالمية-
- النائب العام في ليبيا يعلن توقيف الرئيس السابق للشرطة القضائ ...
- مقتل 40 شخصا على الأقل بهجوم على تجمع عزاء شمال كردفان في ال ...
- افتتاح أول متجر غير إلكتروني في العالم للشركة الصينية -شي إن ...
- مايغيل بيتشمان.. صوت يتحدّى الإعاقة ويُغيّر نظرة المجتمع في ...
- عالجوا الجرحى خلال دراستهم.. غزة تخرّج أطباء صقلتهم ظروف الح ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - على عتبة الغياب