أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الكتابة من فم الموت














المزيد.....

الكتابة من فم الموت


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8513 - 2025 / 11 / 1 - 08:50
المحور: قضايا ثقافية
    


ليست الكتابة فعلًا للحياة كما يظن الناس، بل هي في جوهرها صراخ من فم الموت. الكاتب الحقيقي لا يكتب حين يكون سعيدًا، بل حين يشعر أن شيئًا في داخله يُحتضر. إنّ الحبر ليس لونًا من ألوان الفرح، بل دمٌ سال من جرحٍ قديم لم يجد له جسدًا يندمل فيه، فاختار الورق قبرًا مؤقتًا، والكلمة شاهدًا على موته الصغير المتكرر.الكتابة من فم الموت ليست عن الفناء، بل عن النجاة من الفناء. هي فعل مقاومة ضد العدم، محاولة لترميم المعنى في وجه السقوط. حين يكتب الكاتب من فم الموت، فهو لا يريد أن يخلّد نفسه، بل أن يبرّر وجوده للحظة واحدة أمام عيون اللامعنى. إن الموت حين يقترب، لا يأخذ الجسد أولًا، بل يبدأ من اللغة، من الصوت، من تلك الارتعاشة التي تفصل بين الكلام والصمت. ومن هنا تولد الكتابة: من لحظة الانكسار تلك التي تذوب فيها المسافة بين الكاتب والكفن.كل حرفٍ يُكتب في لحظة وجع، هو وصية، وكل جملةٍ اعتراف، وكل قصيدةٍ شاهد قبرٍ جميل لمن مات ولم يُدفن بعد. من يكتب من فم الموت، لا يسعى إلى المجد ولا إلى الشهرة، بل يكتب كي ينجو من طوفان الصمت. هو إنسان يكتب لأن الصمت أصبح مقبرة أوسع من الأرض، ولأن الكلام صار الطريقة الوحيدة كي يبقى نَفَسُه قائمًا في وجه الريح.الكتابة من فم الموت ليست نحيبًا، بل نوع من العودة إلى الحياة عبر الجرح. إنها التلاشي في الكلمة كي لا يتلاشى الإنسان كله. الكاتب حين يمسك القلم في لحظة الانهيار، إنما يعلن ولادته في منتصف جنازته، فيكتب كأنه يُقيم صلاته الأخيرة على نفسه، يكتب لأنه لا يريد أن يموت مجهولًا في صمتٍ لا يعرف اسمه أحد.كل نصٍّ خرج من فم الموت يحمل نكهة الرماد وملح الدموع، لكنه أيضًا يلمع كذهبٍ في الضوء، لأن الكلمات التي تُكتب هناك — على حافة النهاية — تكون أصدق من كل خطابات الحياة. لا مكان للتزييف حين يكون الموت قريبًا، ولا مساحة للكذب حين يرى الكاتب وجهه في العدم. عندها، يصبح القلم أداة تطهير، يغسل بها الكاتب روحه من الغبار، ويمنحها هواءً جديدًا لتتنفس ولو للحظة.في فم الموت، تتجرد اللغة من زينتها، وتعود إلى أصلها الأول: صرخة الإنسان أمام المجهول. هناك، لا يكتب الشاعر قصيدة، بل يكتب سيرته في هيئة نارٍ هادئة. يكتب لأنه لم يعد يملك سوى الكلمات، ولأن الكلمات وحدها تعرف الطريق إلى الخلود حين تتساقط الأجساد.إن أجمل النصوص وُلدت على مشارف الفناء، لا لأن الموت يمنح الحكمة، بل لأنه يعرّي الإنسان من كل ما ليس ضروريًا. في فم الموت، تتساقط الأقنعة، ويتكلم القلب بصوته المجرد من البلاغة، فيقول ما لا يُقال في ضجيج الحياة. لذلك، كل كتابة عظيمة هي نوع من الوداع الطويل، من الرسائل المؤجلة إلى ما بعد الغياب.نحن نكتب كي لا نموت بالكامل، نكتب لأن الكلمات وحدها تستطيع أن تفتح فم الموت وتجعله ينطق. فحين يكتب الكاتب، يُعيد ترتيب موته كما يشاء، يُهندس العدم بيده، ويحوّل الفناء إلى حروفٍ خالدة. وربما تلك هي المعجزة الوحيدة التي بقيت لنا: أن نحول موتنا إلى أدب، ودموعنا إلى معنى، وصمتنا إلى حياةٍ ثانية تسكن اللغة.وهكذا تبقى الكتابة من فم الموت فعل خلودٍ عكسيّ، لا يُبقي الجسد، لكنه يُبقي الأثر. فالكاتب الذي كتب وهو يحتضر، لم يمت، بل تخلّد صوته في ما بعد صمته. لقد ابتلع الموت حروفه، لكنه عجز عن هضمها. فصارت الكلمة نجاةً من التراب، وها نحن نقرأها لنُدرك أن الإنسان، مهما مات، يبقى حيًا مادامت لغته تتنفس.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين


المزيد.....




- 3 منها في دبي.. الكشف عن أفضل 50 فندقا في العالم للعام 2025 ...
- ماذا نعرف عن المتحف المصري الكبير أضخم متحف للحضارة المصرية ...
- ماذا بعد الفاشر؟ نزوح من بارا وحقائب تحزم في الأُبيّض
- -فاست - تست-.. طريقة بسيطة وسريعة لاكتشاف السكتة الدماغية
- مديرة الاستخبارات الأمريكية: عهد تغيير الأنظمة انتهى
- المتحف المصري الكبير: ما الذي ستتاح للزوار مشاهدته خلال حفل ...
- استمرار نزوح المئات من الفاشر والدعم السريع يقر بوقوع انتهاك ...
- روسيا تعلن إسقاط 98 مسيرة أوكرانية وكييف تندد باستهداف منشآت ...
- مصدر أمني إسرائيلي: هجمات المستوطنين بالضفة خرجت عن السيطرة ...
- عبر الخريطة التفاعلية.. تعرف على التوتر المتصاعد في الكاريبي ...


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الكتابة من فم الموت