أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - جسدٌ يحاكي حُطامَهُ














المزيد.....

جسدٌ يحاكي حُطامَهُ


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 20:14
المحور: قضايا ثقافية
    


بين أكوام الحديد الصدئ، بين الهياكل الميتة التي أكلها الزمن، هناك جسدٌ يتنفس الرماد. لا فرق بينه وبين ما حوله، سوى أنّ فيه ومضةً من روحٍ ما زالت تصرّ على أن تبقى حيّة، ولو على أطراف الحطام. أنا ذلك الجسد الذي يسكن بين السكراب، أمدّ يدي إلى نفسي المكسورة، لا أدري أأنا من يرممها أم هي التي تحاول ترميمي. كلّ شيء حولي يتهالك، وكلّ شيء في داخلي يكتب من فتات الألم حياةً أخرى، وكأنّ الجرح صار مصنعاً لإعادة تدوير الوجع، وكأنّ الإبداع لا يولد إلا من رحم الخراب.أحياناً أضحك حدّ البكاء، وأبكي بلا دموع، لأنّ الدمع ترفٌ لا يليق بمن يعيش بين الصدأ. أسأل الحطام من حولي: أيعقل أن يخرج من بينكم هذا الشجن، هذا الوجع المضيء الذي يسمّونه إبداعاً؟ أأنتَ من علّمني الكتابة أم أنا من لقّنتك معنى البقاء؟ في لحظات الصحو، حين يتسلل الضوء من بين شقوق الحديد، أرى وجهها؛ تلك الحبيبة التي تشبه حطامي في ردودها، لكنها أقوى من كلّ صدأٍ فيّ. أمدّ إليها أنفاسي المثقلة بالغبار، تناديني من البعيد، لا أراها لكنّي أؤمن أنها السبب الوحيد الذي يجعل هذا الجسد ينهض من تحت الركام. أحبّها حبّاً أحاديّاً، صامتاً، يفوق الخيال، كمن يزرع زهرةً في أرضٍ بور، مؤمناً بأنها ستزهر ولو بعد ألف عام.وبين أوجاع الصدى وأشلاء الذاكرة، أستعيد ملامح أولئك الذين كانوا قريبين حدّ الغياب، وأتساءل: كيف صار الدم يُباع كما تباع الخردة؟ كيف صار الكفر والإيمان سلعةً تحددها فتاوى الكراهية؟ القاتل والمقتول من دمٍ واحد، من رحمٍ واحد، لكنّ المقتول يُدفن مرتين: مرةً برصاصة، ومرةً بخيانة ذويه الذين صدّقوا أن ابنهم كافر. يا للعار! القاتل يضحك في أحضان الضحية، والعالم يصفّق للدم باسم العقيدة. فأبصق على هذا الزيف، وأخرج من حلمي كمن يهرب من حريقٍ داخل صدره، لأجد نفسي من جديد بين أكوام الحديد التي تعرفني أكثر من البشر.السكراب هنا ليس مكاناً فقط، بل حالةٌ إنسانية. هو مرآةُ هذا الوطن الذي طحن أبناءه حتى صاروا قطعاً متناثرة من ذاكرةٍ مصدّأة. كلّ قطعة حديد تحكي حكايةَ قلبٍ احترق، وكلّ مسمارٍ صدئٍ هو صرخةُ أمٍّ فقدت ابنها في حربٍ لا تعرف سببها. أما أنا، فمجرد جسدٍ يتنفس على حافة النهاية، يكتب كي لا يموت، ويحبّ كي لا يتحول كلياً إلى معدنٍ بارد.في كلّ صباح، أستيقظ على صوت الحطام يناديني باسمي. كأنّه يقول: "اكتبني، فأنا الوطن المنسيّ في ذاكرة أبنائه." أكتب وأنا أعلم أن الكتابة في زمن الخراب مقاومة، وأنّ الحرف هو آخر ما تبقى من الروح حين يتآكل الجسد. أكتب لأني لا أملك سلاحاً غير اللغة، ولا عزاء لي سوى الورق، ولا وطن لي سوى المعنى.يا لهذا العالم الذي يعبد الأقنعة! يتحدّثون عن الإيمان وهم يبيعون الضمير في السوق، يرفعون شعار العدالة وهم يسفكون الدم، يتحدثون عن الرحمة وهم يقطعون الأرحام باسم الدين. أيّ دينٍ هذا الذي يسمح للقاتل أن يضحك في وجه المقتول؟ أيّ إنسانيةٍ هذه التي تقيس الطهر بمقدار الولاء؟ لقد صار النفاق مهنةً، وصار الصدق جريمةً يُعاقب عليها بالموت.
أعود إلى حطامي، إلى مكاني الذي يشبهني، إلى الأشياء التي لم تخدعني يوماً. الحديد لا ينافق، والرماد لا يكذب. أمدّ يدي إلى وجهي المرهق، أتحسس خطوط التعب التي رسمها الزمن، وأبتسم. ليس لأنّ الحياة جميلة، بل لأنّي ما زلت قادراً على أن أرى فيها جمالاً، ولو من تحت الركام.ربما سيأتي يومٌ ينهض فيه هذا الحطام ويصير جسداً جديداً، ربما ستنبت من بين أكوام الحديد زهرةٌ تشبه وجهها، وربما سأكتب آخر كلماتي هناك، على قطعة خردةٍ منسية، لأقول للعالم إنّ الإنسان يمكن أن يولد من الرماد مرتين: مرةً حين يُخلق، ومرةً حين يقرّر أن لا يموت رغم كل شيء.
فهنا، بين صدى الحديد ووشوشة الريح، يعيش جسدٌ يحاكي حطامَه... لكنه ما زال يحلم.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم


المزيد.....




- السجن 5 سنوات بحق ?المحامي أحمد صواب المعارض للرئيس التونسي ...
- -المتحري- يكشف تفاصيل أول عملية إسرائيلية باليمن
- غزة بعد الاتفاق مباشر.. قصف مدفعي على خان يونس واقتحام مدن ب ...
- المتحري.. جذور الصراع بين اليمن وإسرائيل
- إحابة -غامضة- من ترامب على سؤال بشأن ما يعنيه بـ-استئناف- ال ...
- البنتاغون يمنح الضوء الأخضر لتزويد أوكرانيا بصواريخ -توماهوك ...
- دليلك لفهم ما يجري في السودان، منذ انقلاب عام 1989 حتى الآن ...
- -ما وراء الخبر- يناقش التطورات في لبنان ورسائل التصعيد الإسر ...
- هل ينجح تصعيد إسرائيل في إشعال أزمة داخلية بلبنان؟
- إسرائيل تتسلم 3 جثث وتحيلها للفحص الشرعي


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - جسدٌ يحاكي حُطامَهُ