أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته














المزيد.....

الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 01:06
المحور: قضايا ثقافية
    


ليست كل الخيانات تبدأ من خنجرٍ مغروسٍ في الظهر، ولا من وعدٍ مكسورٍ على حافة الغياب، بل هناك خيانة أعمق، أبشع، وأدق، خيانة لا يراها الناس ولكنها تسكن فينا كظلٍ لا يفارقنا، إنها الخيانة التي يمارسها الإنسان ضد ذاته، حين يختار أن يعيش في الظل وهو خُلق للنور، حين يدفن صوته في زحام الأصوات المزوّرة، حين يتصالح مع زيفه ويقبّل يديه كأنه يبارك القدر. إن أعظم جريمةٍ يرتكبها المرء ليست أن يخذل وطنه أو صديقه، بل أن يخذل نفسه، أن يبيع ذاته في سوق التنازلات، أن يُسكِت نداء الضمير بحفنة من المبررات وأن يخلع ثيابه الداخلية من الصدق ليكتسي بالرياء أمام المرايا العامة.الإنسان، في جوهره، مشروع من الضوء، مخلوقٌ أودع الله فيه قبسًا من الروح، فإذا خان تلك الشرارة وانطفأ عمدًا، أصبح كومة رمادٍ تبتسم بلا معنى. ترى الواحد منهم يتحدث عن الأخلاق والحق والجمال، بينما في داخله مقبرة من المبادئ المنسيّة، يضحك في وجهك وهو يلعن نفسه في داخله، يعيش بأسماء كثيرة إلا اسمه الحقيقي. تلك الخيانة الهادئة هي التي جعلت العالم يمتلئ بالوجوه المكرّرة، بالألسن التي لا تقول إلا ما يُرضي، وبالقلوب التي تنبض بلا حياة.إن خيانة الذات ليست فعلًا آنياً، بل هي تراكم من الانحناءات الصغيرة، من السكوت الطويل، من التبرير المتقن. تبدأ حين يقول الإنسان "لا بأس" لأول مرة أمام خطأ واضح، حين يساوم بين قناعاته ومصالحه، حين يختار السلامة على الحقيقة، ويبرّر لنفسه الهزيمة باسم الحكمة. وما من شيء يدمّر الإنسان مثل هذا الصمت الداخلي، فحين يرضى عن نفسه رغم عريها الأخلاقي، يصبح مثل تمثال من طينٍ مطليّ بالذهب، يلمع من الخارج لكنه يتشقق في الخفاء.كم من عالمٍ باع علمه ليشتري رضا السلطان، وكم من فنانٍ غيّر لونه ليرضي جمهوراً عابرًا، وكم من كاتبٍ تراجع عن حرفٍ كان سيحرّك التاريخ، لأن الخوف تسلل إلى قلبه فخانه، ثم خان كلماته. كل هؤلاء لم يخونوا غير أنفسهم، إذ أن الوطن يُشفى، والناس تُنسى، لكن جرح الذات لا يلتئم أبدًا. الخيانة التي ينسى الإنسان أنه ضحيتها قبل أن يكون فاعلها، هي تلك التي يمرّرها على روحه كل يوم، حين يضحك وهو يعلم أنه حزين، حين يصافح من لا يؤمن به، حين يوقّع بيده على إلغاء ذاته.في النهاية، لا أحد يُحاسبك على تلك الخيانة سوى نفسك، فهي القاضي والشاهد والجلاد. قد تنام على وسادةٍ من التصفيق، ولكنك تستيقظ على صمتٍ ثقيلٍ في صدرك لا يزول. من خان ذاته مرة، لن يعرف الطمأنينة ولو سجد ألف سجدة، لأن الله لا يغفر لمن تخلّى عن الصورة التي خلقه بها. فالنقاء لا يعود بعد بيعه، والصدق لا يُستعار بعد فقدانه، والروح التي كُسرت لأنها انحنت للباطل، تظلّ تمشي مثقلةً بأشلائها.لقد تعوّد الإنسان أن يلوم الآخرين: الحكومات، القدر، الزمن، لكنه نسي أن أول عدوٍ يسكنه هو نفسه، وأن أكبر سجنٍ يعيش فيه هو خوفه من أن يكون صادقًا مع ذاته. إن الحرية الحقيقية لا تُنال من سلطةٍ ولا تُشترى بثورة، بل تبدأ من لحظة مواجهة النفس عاريةً أمام المرآة، بلا أقنعة ولا أعذار. تلك اللحظة التي يقول فيها المرء: نعم، لقد خنت نفسي، لكنها لن تُخان بعد الآن. عندها فقط يولد الإنسان من جديد، لا كجسدٍ يمشي في الأرض، بل كضميرٍ يصحو من سباته الطويل، ويستعيد صوته المفقود في زحام الأكاذيب.الخيانة الكبرى ليست في الحروب ولا في السياسة ولا في الحب، بل في الصمت الطويل أمام سقوطنا الداخلي، حين نصبح نحن سبب خرابنا، ونحن من نعلّق المشنقة على أعناق أرواحنا. إن أجمل انتصار يمكن أن يحققه الإنسان ليس أن يهزم غيره، بل أن يغلب ضعفه، أن يقول كلمته رغم العتمة، أن يعيش في ضوءٍ منسجم مع نفسه ولو خسر العالم بأسره. فالعالم قد يُعطيك مكانة، لكنه لا يمنحك سلامًا، أما صدقك مع نفسك فهو الجائزة الوحيدة التي لا تُشترى ولا تُسرق، وهو الخلاص الوحيد من لعنة الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم
- العشيرة... بين لحمِ الأرض وروحِ الوطن
- الزجاج الذي لا يُشعَب… ووطنٌ كُسِرَت ملامحه
- عندما تجمّدت الشمس في صدورنا
- حين كُسِرت أصابعي ولم تَعُد تُمسك القلم
- الأحواز… نبيّ العطش المنسي
- اجعلوني مرجعاً لأيام
- إعلان وفاة حي
- اليمن.. من مملكة سبأ إلى ظلال الطائفية: رحلة وطنٍ في مواجهة ...
- مواعيدُ عَرقوبٍ على مَائدةِ المتقاعدين.. فلسفةُ الوعود المؤج ...
- المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخ ...
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية


المزيد.....




- قائد الجيش الأوكراني يقر -بظروف صعبة- في الدفاع عن مدينة بوك ...
- بعد أن كان مناسبة للوحدة، ذكرى اغتيال رابين تتحول إلى انقسام ...
- ظهور أول وشق أبيض إيبيري في جنوب إسبانيا
- أوكرانيا تصادر جملا يستخدمه الجيش الروسي
- النرويج: روسيا تُعيد بناء واحدة من أكثر قواعدها استراتيجية م ...
- حكومة غزة: الاتهامات الأميركية لحماس بنهب مساعدات تضليل ممنه ...
- هيغسيث: نبحث مع الصين إقامة -قنوات اتصال- عسكرية
- هجوم أوكراني يستهدف منشآت نفطية في ميناء روسي استراتيجي
- مقتل 4 بغارة إسرائيلية وكاتس يؤكد: لن نوقف الهجمات بلبنان
- صورة متداولة لـ-انتشار جثث القتلى في شوارع الفاشر-.. ما صحته ...


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته