أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!














المزيد.....

حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 10:45
المحور: قضايا ثقافية
    


لم أكن أتخيل أنني سأكتب يومًا عن حاوية زبالة، تلك الجوزية اللون المكسورة الأطراف التي رافقتني من بيت إلى بيت كرفيقة درب لا تشتكي ولا تتذمر، تعرف كل ما أرميه من بقايا الأيام، وتبتلع بصمت خيباتي اليومية. كنت أظنها شيئًا عادياً من أشياء الحياة التافهة، حتى اليوم الذي سُرِقت فيه، لتتحول إلى مرآة فاضحة لِقُبحٍ اجتماعي لا يراه الناس إلا حين يُخطف منهم أبسط ما تبقّى من نظامٍ في الفوضى.خرجت من محل السكراب كعادتي، أحمل أكياسًا من بقايا الحديد، وبعض الغبار الذي التصق بروحي قبل ثيابي. عدت إلى البيت أجرّ التعب ككل يوم، وضعت الكيس عند الباب حيث تنتظر زوجتي، تلك التي لا تتذمر من العيش المزدحم بالوساخة بقدر ما تتذمر من ضياع معنى النظافة في البلد كله. ناولتني كيس الزبالة اليومي: بقايا الطعام، أوراق بالية، أشياء انتهت صلاحيتها كما انتهت صلاحية بعض الناس في هذا الوطن.نزلت نحو الحاوية المكسورة، رفيقة العمر، فلم أجدها! توقفت مذهولاً أمام الفراغ كمن فَقَدَ صديقًا عزيزًا. التفتُّ أبحث في الزوايا، في الأرصفة، في ظلال السيارات، كأنني أبحث عن وطن ضائع لا عن سطل صدئ. فجأة خرجت جارة كردية، ملامحها طيبة، كلماتها لا أفهمها لكنها بدت قلقة من شيء:– “هل سيارتي مضايقتكم؟”أشرتُ نحو كيس الزبالة، فظنت أنني أشكو موقفها! جلست على الكرسي، وأرسلت ابنها ليحرك السيارة. ضحكت من عبث المشهد. أي عبثٍ أكبر من أن تبحث عن حاوية زبالة في وطنٍ تُسرق فيه الوزارات؟!
عدتُ أجرُّ خيبتي الصغيرة، وأنا أفكر: هل بلغت بنا الحال أن تُسرق حتى الزبالة؟! هل صار الفقر والذل والضياع يجعلان الناس يمدّون أيديهم إلى أكياس القذارة؟! أم أن السرقة أصبحت عادةً يومية لا تفرّق بين ذهبٍ وحديد، بين وطنٍ أو نفاية؟!في الصباح، عدت أفتّش عنها، كمن يبحث عن قبرٍ في مدينة بلا مقابر. لم أجدها. وضعت كيس النفايات في الجزيرة الوسطية، وكأنني أدفن شيئًا من ضميري هناك، ثم جلست أكتب. كانت الكتابة هذه المرة أقرب إلى العزاء منها إلى التعبير. حزنت، ليس على الحاوية، بل على الإنسان الذي انحدر إلى هذا المستوى من الرذيلة.
اتصلت بي صديقة بعيدة، من بلد آخر. قالت بصوتٍ يقطر حناناً:– “ما لك حزين؟”
قلتُ لها وأنا أضحك بمرارة: “لقد سرقوا حاوية الزبالة.”صمتتْ، ثم انفجرت ضاحكة ضحكة حزينة كأنها نواح، وقالت: “نحن سرقوها منا ثلاث مرات!”ضحكنا حتى البكاء. يا للكارثة حين تتحول الكوميديا إلى مأتم، وحين يصبح الضحك طريقة للبكاء من دون دموع.أيها الوطن المصلوب على باب الفساد، كيف صرنا نخاف على النفايات أكثر من خيانتنا؟! كيف ندفن عارنا تحت أكياس القمامة وننسى أن من سرق الحاوية اليوم، قد يسرق غدًا مدرسة أو مستشفى أو ضمير أمة!؟.إن الذي يسرق سطل الزبالة لا يختلف كثيرًا عن الذي سرق المليارات. كلاهما خرج من ذات المدرسة، حيث تُدرّس “الأنانية التطبيقية” و“فنّ اللامبالاة بالآخر”. كلاهما ضحية مجتمعٍ ترك الأخلاق تموت على أرصفة السياسة.ولمّا فكّرت أكثر، وجدت أن السرقة لم تبدأ من الشارع، بل من فوق الكراسي الوثيرة. حين سُرق النفط وسُرقت الوظائف وسُرقت العدالة، كان من الطبيعي أن تُسرق الزبالة في النهاية. إنها الهرمية العكسية للسقوط: يبدأون بالوطن وينتهون بالسطل!
يا لسخرية القدر! كنتُ أظن أن الزبالة نهاية الأشياء، فإذا بها بداية التأمل في نهايتنا جميعًا.هل يمكن لأمةٍ تُسرق فيها النفايات أن تُنجب مصلحين؟هل يمكن لمجتمعٍ يفرح بسرقة حاوية قذارة أن يعرف معنى الكرامة؟
ربما لم تُسرق الحاوية يا أصدقائي… ربما هربت وحدها من العار الذي تراه كل يوم، من القمامة التي لم تعد في الأكياس بل في العقول.حين تُسرق الزبالة، اعلم أن المدينة ماتت مرتين: مرة حين كدّست القذارة في الأزقة، ومرة حين فقدت الإحساس بما هو قذر حقًا.ذلك اليوم، وأنا أضع كيس الزبالة في الجزيرة الوسطية، لم أكن أرمي نفاياتي، بل كنت أدفن شيئًا من قلبي مع كل ما تبقّى من نقاء.وسأقولها بصدقٍ ساخرٍ كالوجع:
لم يُحزنني أن تسرقوا حاويتي… بل أن تسرقوا معنى النظافة من أرواحكم.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موت الحقيقة في مقبرة الثقافة
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء
- الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف
- عليٌّ بريءٌ من عليِّكم


المزيد.....




- ذعر بحيّ إيرلندي من أسد هارب.. فهل كان أسدًا فعلًا؟
- صور أولى لطائرة -كانتاس- للرحلات المباشرة بين سيدني ولندن ون ...
- بمشاعل مضيئة وألعاب نارية.. متظاهرون يعطلون حفلًا موسيقيًا إ ...
- فيديو متداول بمزاعم وجود -آثار مٌقلدة في المتحف المصري-.. هذ ...
- فشل محادثات اسطنبول بين باكستان وافغانستان.. وكابول تؤكد أن ...
- الدنمارك ستحظر بعض وسائل التواصل للأطفال دون هذا السن!
- هاف بوست.. بايدن تجاهل معلومات بشأن انتهاك إسرائيل القانون ا ...
- نجاة عائلة أحرق مستوطنون منزلها في رام الله والاحتلال يعتدي ...
- استمرار اعتداءات المستوطنين على تجمعات بدوية بالأغوار
- إسرائيل تتحكم في كميات وأسعار وأصناف الغذاء الداخل لغزة


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!