أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - خونة بغداد














المزيد.....

خونة بغداد


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 10:39
المحور: قضايا ثقافية
    


ما أن تهمس الريح فوق ضفاف دجلة حتى تستيقظ ذاكرة المدينة، ترفع ستائر السنين وتكشف عن وجوهٍ ضاقت بها الأزقة والقصور معاً. بغداد ليست مجرد حجارةٍ وأسماء؛ هي سرد طويل من أملٍ ونداء وصراع، لكنها أيضاً مرآة تعرف الخيانة حين تنظر إليها: لا تُخدع بخفة كلام الزمان، فثغور الخائنين تلوح هناك، في الزوايا التي صارعت فيها الحرية وتبادلت فيها الأمانة مع الذهب، وباعوا الوطن كما يبيع الغراب حليَّه على قارعة الطريق.الخائن عندنا ليس حالةً عرضية، بل طقسٌ متكرر وقع فيه بعضٌ ممن لبسوا الأسماء الكبيرة، أو وقعوا تحت سحر الوعود السهلة. كانوا يظهرون بملابس الوطنية أو المذهب، يرددون شعاراتٍ رنانةً، لكنهم في الليالي الباردة يغتصبون الأرض بصفقاتٍ لا تُروى، ويُسلمون مفاتيح الحلم إلى مرابيّ الاحتلال بابتسامةٍ مدفونةٍ تحت شحمة الأذن. تاريخهم قذر كقاع نهرٍ احتشدت فيه كل أنواع الوحل: مؤامرات مدبّرة، تحويلات مُخبأة، ومحاولات تصفية للذاكرة بالحقد والكذب.تأريخ بغداد عليهم أقصر من أن يحمله القلم من دون أن يرتعش: هم الذين جعلوا من الخيانة فنًّا يوميًّا، ومن الخداع سلوكا مألوفا، ومن البيع ستارة تُعرض تحت أسماء مضللة. كانوا ينهشون جسد الوطن كالسوس، يقطعون الخيوط التي تربط الناس ببعضهم، ويبيعون الجذور بأرخص الأثمان. قد يظن الظالمون أن التاريخ سريع النسيان، لكن بغداد تعلم أن للذاكرة أسناناً أصيلة لا تنام، وأن لكل صفقةٍ قِيدًا في سجل الأبد.أعترفُ أنني لا أكتب عن الخونة فقط لأبكي على الماضي، بل لأسأل الحاضر: كيف نريد أن نغرس في النفوس درس الخيانة؟ أن نصنع لهم تماثيل تصفعهم بالأحذية؟ أن نبصق عليهم علانية؟ تلك صور عنفٍ قد تُطفئ نار الانتقام في النفس بل تُغذّي حلقة الإهانة وتحوّلنا إلى ما ننبذه. أنا لا أجد في التلذذ بالرغبات الانتقامية أجمل من الاستلهام؛ الاستلهام الذي يجعل من تاريخ الخائن عبرةً لا مجرد مسخرة.بإمكاننا أن نصنع لهم متحفاً، ولكن متحفاً مختلفاً: ليس لتمجيدهم، بل لفضحهم. قاعات تُعرض فيها عقود البيع، رسائل المرضى بروح الوطن، صور وجوهٍ فقدت أرضها بسبَبهم، وسجلات تُقرأ بصوتٍ خافت يخرّب الكذب بصراحة التاريخ. قاعةٌ تحمل اسمَ «مِرآةُ الخائن» تُجبر زوارها على مواجهة انعكاساتهم، كي يتعلم الصغار أن لكل كلمةٍ ثمنًا، ولكل فعلٍ حساباً بين الناس وتحت السماء. نضع هناك أيضاً لوحاتٍ عن الشجاعة: نماذج للأحياء الذين قاوموا الخيانة، استبدلوا البيع بالدفاع، والغرور بالإيثار، وكانت بغداد بأهلها أجمل.أكتب أيضاً عن الخيانة كمصطلح أخلاقي قبل أن تكون سياسية؛ لأن الخائن الحقيقي هو من ينزع الكبرياء من شعبه ويبيع الضحكة الأخيرة من فم طفل. هو الذي يفرّ من السؤال ويختبئ وراء ستار الطمع. هؤلاء استخدموا الدين والمذهب والقومية كأقنعة رخيصة لتبرير ما لا يُبرر: سرقة الأرزاق وطمس الذاكرة واغتيال المستقبل. إن إدانة الخيانة لا تفتقد إلى حدة الكلام، لكنها لا تحتاج إلى سُبابٍ أو إساءةٍ تفقدنا إنسانيتنا؛ فذود الحق لا يكون بطعن الأخلاق.أحياناً، أفكر أن الحرب الحقيقية ليست فقط في الميادين، بل في قلوب الناس الذين يسمحون للخيانة أن تولد وتنتشر. الخائن يزهر حيث تُهمَل الحماية، حيث يتآكل الحسّ الوطني، وحيث لا توجد رقابة للضمائر. لذا، كان واجبنا التشديد على بناء مؤسساتٍ شفافة، ومحاكمٍ تحاكم بالعدل، وتعليمٍ يعلّم الأجيال معنى المِلك العام والكرامة. لا يمحو ذلك ما ارتكبوا، لكنه يقطع الطريق أمامهم كي لا يولد خونة جدد.نحن بحاجةٍ إلى قصائدٍ تلعن الخيانة، ورواياتٍ تكشف الوجه القبيح لمن باع وطنه، إلى مسرحٍ يعيد مشاهد الخيانة أمام أنظار الناس حتى يتعلموا. ولكننا بحاجة أيضاً إلى فعلٍ تاريخي عقلاني: تشريعات تلاحق الفساد، سجلات توثّق، ومحاكمات علنية تُظهر مدى انحطاط من خانوا، دون أن نحمل على الذاتِ عيبا لا يليق بالثورة على الظلم. اللوم على الخائن يجب أن يكون ذا معنى—ليس مجرد رجاءٍ للانتقام، بل تصميمٌ على ألا يعود مثله يغتصب مستقبلنا.في هذه المدينة، حيث تحولت أنقاضها إلى بذور طيبة مراتٍ لا تحصى، نسجل اسماً جديداً للحياة: «ذاكرة لا تُشترى». لن نمحو الخائنين من صفحات التاريخ، بل سنكتبهم بالحبر الأسود ليتذكرهم الإعلام والمدارس والأجيال. سنجعل من قصة الخيانة درساً في مناهج التربية، لا لتغذية الحقد، بل لبناء مناعةٍ وطنيةٍ ضد الخداع. وأن نحفر في الحجر أسماء الذين دافعوا عن الكرامة والوجود، لأن تماثيل الشرف هي وحدها التي تُعلّمنا كيف نعيش بلا بيعٍ ولا خضوع.اذن بغضبٍ مباحٍ وحنقٍ إنسانيٍّ على الخيانة، أرى أن النصر الحقيقي لا يأتي من إذلال الإنسان بإذلال آخر، بل من تفعيل العدالة والذاكرة والتعليم. أن نصنع من خيانةِ الخائنين وقوداً لنزعِ اللحظةِ التي ولدت فيها، وأن نبني تماثيل للكرامة، لا للثأر؛ نعلّم بها الأجيال أن الوطن لا يُباع ولا يُهدر، وأن خيانة الفرد لا تُنقذ أحداً من ذنبها سوى التاريخ الذي لن يرحم.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!
- موت الحقيقة في مقبرة الثقافة
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء
- الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...
- حينما هُدم التمثال، تكلم الحجر بلغة الجواد
- نامت المرآة في جيب الهاتف


المزيد.....




- على الخريطة.. آخر تحركات الجيش الروسي في أوكرانيا وماذا تريد ...
- حماس تعلن أنها ستسلم جثمان أقدم رهينة محتجز لديها
- القطار الأسطوري -أورينت إكسبريس- يعود إلى باريس في معرض يحتف ...
- ندوة عمومية بقرية با محمد، تحت عنوان: واقع وآفاق الحركات الا ...
- الفلبين تجلي نحو 900 ألف شخص بسبب الإعصار فونغ وونغ
- العراق: تحالفات في سادس انتخابات تشريعية منذ الغزو الأمريكي ...
- اكتشف معنا أسوأ مسلسل في التاريخ ..رغم وجود هذه النجمة الكبي ...
- السودان: الجيش يعترض هجوما بمسيّرة لقوات الدعم السريع
- فرنسا تعلّق عمل شركة -شي إن- حتى تمتثل للقوانين
- شبكة -أطباء السودان-: الدعم السريع حرق مئات الجثث في الفاشر ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - خونة بغداد