أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عندما مات الجمال في مرآة الفن














المزيد.....

عندما مات الجمال في مرآة الفن


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 14:38
المحور: قضايا ثقافية
    


كان الجمال ذات يومٍ يصحو مع أول خفقة ضوء، يمرّ على وجوه الناس كما تمرّ أنفاس الخالق على التراب، فيزهر القلب وتُشرق الروح وتتهذّب الرؤى، كان الفنّ آنذاك ترجمان الجمال وسفيره في المدن والعيون والمقابر، كان ينهض من رحم الألم كما تنهض الوردة من رماد الحريق، حتى صار الناس يؤمنون أن للفنّ قداسةً تفوق كل قداسةٍ أخرى، لأنه وحده كان يربط الإنسان بما هو أكبر من عمره، وكان الفنّان رسولا بلا معبد ولا كتاب، يكتب ويمسح ويعيد الخلق على مهل، كأن الوجود لوحة قابلة للتصحيح الأبدي، لكنّ الزمن تغيّر، ومات الجمال في المرآة، وبقي الفنّ بلا ظلٍّ ولا عطر.لم يمت الجمال قتلاً، بل اختناقًا، حين أحاطته الشاشات والأضواء وأيدي السوق، فصار الفنّ يلهث وراء تصفيقٍ عابرٍ لا وراء الدهشة، وصار الجمال يُقاس بعدد المشاهدات لا بعدد الخفقات التي يتركها في القلوب، صار الجسد أهم من الفكرة، والمظهر أوسع من الجوهر، والضوء يبتلع المعنى كما تبتلع النار وردةً عطشى، فاختنق الفنّ وارتدى قناع الحرية ليُخفي عجزه، وبكى الجمال طويلاً في زوايا المعارض والمهرجانات، حتى لم يعد أحد يسمع بكاءه إلا المجانين والأنبياء الذين لا يُدعون إلى المهرجانات.كان الفنّ ذات يومٍ هو الطريقة التي يتنفس بها الله من خلال الإنسان، كانت اللوحة صلاةً ملونة، والقصيدة معراجًا إلى قلب الغيب، والموسيقى دموعًا لا تُرى إلا بالسمع، كان الفنّ هو ما ينجو من الإنسان حين يتساقط كل ما فيه، أما اليوم فقد صار الفنّ مرآةً مكسورة، كلّ قطعةٍ منها تعكس وجهًا مشوّهًا لجمالٍ منسيّ، وصار الفنانُ نفسه يبحث عن ذاته في واجهة العرض، يتسوّل إعجابًا ويقايض حلمه بنجمةٍ رقمية، حتى غاب الخلود من المعادلة وصار الفنّ يشيخ قبل أن يُعرض.لقد غادر الجمال صالات الفنّ حين صار الجمالُ يُصمَّم في برامج الذكاء لا في دهشة القلب، حين صارت الألوان تُختار بمعايير السوق لا بمعايير الروح، وحين صار الشعر يُكتب لينال جوائزَ لا ليوقظَ إنسانًا من غفوته، مات الجمال حين صار يُباع، ومات الفنّ حين صار يُقاس، ومات الإنسان حين صدّق أنه ما زال حيًّا وهو يعيش بين رماد الصور، لا يسمع إلا صدى ضجيجه ولا يرى إلا نفسه في مرايا الغرور، لقد صار الفنّ صناعةً بعد أن كان معجزة، وصار الجمال وظيفةً بعد أن كان رسالة.ومع ذلك، فإن الجمال لا يموت تمامًا، بل يختبئ، ينسحب إلى الصمت ليحفظ كرامته، إلى عيون طفلٍ لا يعرف معنى الفنّ لكنه يرتجف أمام قوس قزح، إلى وجع عاشقٍ يرى في الخذلان لونًا جديدًا للحياة، إلى قصيدةٍ تُكتب دون أن تُنشر، وإلى رسّامٍ يرسم في الظلام ليبقي الضوء نقيًا، هناك في تلك العزلة يظلّ الجمال حيًّا، ممدّدًا على أنفاس الحالمين الذين لم يبيعوا أرواحهم بعد، يهمس لهم كل مساء: “احملوني إلى النور إن استطعتم، لكن لا تضعوني في المزاد.”
إن الجمال، حين يغيب، لا يُدفن في المتاحف بل في النفوس التي كفّت عن الحلم، والفنّ حين يتحوّل إلى حساباتٍ رقمية يفقد دمه، لأن الفنّ هو نزيف الروح لا هندسة الصورة، وما لم يعد الإنسان قادرًا على البكاء أمام لوحة، فلن يستطيع أن يضحك أمام معجزة، لأن الجمال ليس ما نراه بل ما نؤمن أنه يستحق أن يُرى، ولأن الفنّ الحقيقي لا يُعلَّم ولا يُصنع، بل يُولد كما يولد الربيع من رحم الشتاء.في النهاية، حين مات الجمال في مرآة الفن، لم يكن الميت هو الجمال، بل الإنسان الذي لم يعد يرى وجهه في تلك المرآة، لأن المرايا لا تكذب، بل نحن من كففنا عن النظر إليها بصدق، لذلك فإن بعث الجمال من موته لا يكون بخلق فنٍّ جديد، بل بخلق إنسانٍ جديد، إنسانٍ يعرف أن الفنّ ليس لوحةً تُعلّق، بل حياةٌ تُعاش، وأن الجمال ليس زخرفًا في الخارج، بل ثورة في الداخل، فحين يعود الإنسان إلى روحه، سيعود الجمال إلى الفنّ، وستضيء المرآة من جديد.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين أحببتها كانت النقود لا تعرف اسمي
- خونة بغداد
- حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!
- موت الحقيقة في مقبرة الثقافة
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء
- الخيانة الكبرى: خيانة الإنسان لذاته
- الكتابة من فم الموت
- جسدٌ يحاكي حُطامَهُ
- مواسم الانتظار
- وردٌ على فم الموت
- الخراب في مرآة الإنسان: الحرب السودانية وصراع النفوذ في جسد ...


المزيد.....




- فيديو معدّل لخطاب ترامب عُرض قبل عام يطيح بمسؤولين في BBC ال ...
- نتنياهو يلتقي كوشنر في القدس.. ومسؤول إسرائيلي يكشف ما قد ين ...
- مصر: انطلاق التصويت في المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النوا ...
- بركان كيلاويا يثور مجددا ويقذف نوافير الحمم بارتفاع 330 مترا ...
- دراسة: المشافي الألمانية غير مستعدة بشكل جيد للحروب والأزمات ...
- -قانون قيصر- عقوبات أمريكية قاسية على سوريا.. ماذا نعرف عنها ...
- فرنسا: ناجية من اعتداءات 13 نوفمبر تروي لفرانس24 تفاصيل ليلة ...
- محكمة فرنسية تأمر بإخلاء سبيل الرئيس السابق ساركوزي ووضعه تح ...
- استقالة مدير عام شبكة -بي بي سي- ورئيسة قسم الأخبار بعد اتها ...
- الإمارات لا ترجح المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار بق ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عندما مات الجمال في مرآة الفن