أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية














المزيد.....

الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 14:39
المحور: قضايا ثقافية
    


هناك لحظة في حياة الإنسان لا تُرى، لا يُعلن عنها، ولا تُسجّل في التاريخ، لكنها تُغيّر كل شيء: لحظة محو الذاكرة، حين يُستبدل الألم بالفراغ، والمعاناة بالطمأنينة المصطنعة، والحقيقة بالنسخة المعدلة. صار الإنسان الممسوح إنسانًا بلا ماضٍ، بلا تجربة، بلا ذاكرة تحمله عبر الزمن. صار مجرد برنامج يسير على الأرض، يبتسم حين يُطلب منه، يقرر حين تُعطى له الخيارات، يكره حين يُزارغ على الكراهية.الذاكرة، ذلك الحجر الذي يحمل كل آثارنا، كل ألمنا، كل فرحنا، كل جروحنا، أصبحت عائقًا يجب حذفه باسم الحماية. لا حماية هنا من الموت أو المرض، بل حماية من الحقيقة، حماية من الذات، حماية من ما نحن عليه حقًا. في عالمٍ مسكون بالسيطرة، يُصبح مسح الذاكرة واجبًا، وسيلة لإنتاج إنسانٍ آمن، مطيع، جميل الشكل لكنه فارغ الجوهر.الإنسان الممسوح يعيش بين الناس لكنه غريب عن نفسه. كل إحساس، كل علاقة، كل ذكرى، يُعاد تصنيعها ليصبح مقبولًا، مطابقًا، غير مؤلم، غير معقد، غير إنساني. إنه يعيش في صخب العالم لكنه صامت داخليًا، يضحك بلا سبب، يبكي بلا معنى، ويستمر في حركة الحياة وكأن شيئًا لم يكن. وكلما حاول أن يستعيد جزءًا من ذاكرته، يجد الحائط أقوى، الحماية أشد، والفراغ أعمق.
الأخطر أن هذا المسح ليس دائمًا واضحًا، بل يتم تدريجيًا، كما تُزال أوراق الشجر بالريح دون أن تشعر بها. يبدأ بالتخفيف من الألم، ثم ينزع الصدمة، ثم يزيل الانكسارات، حتى تصل إلى الإنسان نسخة معدلة من نفسه، لا يجرؤ على الحلم، ولا على التذكر، ولا حتى على التساؤل. إنه الإنسان الذي لا يعرف أن ذاكرته اختفت، ولا يشعر بالفراغ إلا حين يرى الآخرين يذكرون، ويشعرون، ويعيشون.
وفي هذا المسار، تندثر الهوية. كل قيمة، كل شعور، كل تجربة، تصبح قابلة للاستبدال. كل صورة من الماضي تُحذف، وكل أثرٍ يُمحى، وكل قصص الحياة تُستبدل بصور معدلة لا تؤلم. الإنسان الممسوح يصبح شفافًا، مسطحًا، باردًا، لكنه مُرضٍ للمجتمع، مُطابق لقواعد النظام، ومقبول بين النسخ الأخرى من نفسه.لكن حتى في أعماق الفراغ، هناك شيء يصرخ، شيء يحاول التذكّر، شيء يرفض أن يُمحى تمامًا. إن روح الإنسان الممسوح ليست قابلة للمسح الكامل، ربما تتخفى، ربما تهرب في تفاصيل صغيرة، في حلم لم يُكتب بعد، في ابتسامة عابرة، في دمعة سرية. هنا يظهر البعد الحقيقي للصراع: بين الأمن المصطنع وحرية الألم، بين حماية الذاكرة وحق الإنسان في أن يكون كاملًا، ذا جرح، ذا فرح، ذا صرخة.الإنسان الممسوح هو تحذير لعصرنا: أننا نصنع سلامًا بلا ألم، وجمالًا بلا معنى، ووجودًا بلا تجربة. وربما النهاية ليست في مسحه، بل في إدراكه، حين يرى أن ما تم حذفه لم يُمحَ بالكامل، حين يبدأ السؤال: هل أنا ما أنا عليه، أم مجرد نسخة من الماضي الذي صُمم ليكون مقبولًا؟



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نهاية الشعر وبداية الصمت
- صباحُكِ ريما... حينَ تبتسمُ الحياة
- نهاية الإنسان قبل موته: سقوط الوعي في زمن الآلة المقدّسة
- العراق... حين تنتخب الظلال نفسها
- القيامة التي لم ينتبه لها أحد
- عندما مات الجمال في مرآة الفن
- حين أحببتها كانت النقود لا تعرف اسمي
- خونة بغداد
- حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!
- موت الحقيقة في مقبرة الثقافة
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.
- أنثى الضوء


المزيد.....




- مصرف لبنان المركزي يفرض -إجراءات وقائية- على تداول العملات ا ...
- تقرير صحافي: إسرائيل تتحضّر لعمل عسكري ضد حزب الله في بيروت ...
- الحرِّيَّةُ لإبراهيم شريف
- جنود إسرائيليون يعترفون باستعمال الفلسطينيين كدروع بشرية في ...
- ليلة مرعبة في العاصمة الأوكرانية كييف جراء هجوم روسي -هائل- ...
- -بلو أوريجين- التابعة للأمريكي جيف بيزوس تنجح بإطلاق صاروخها ...
- حرب النجوم.. في وجه التهديد الروسي، جيشٌ فضائي فرنسي يُدشن م ...
- أوضاع مأساوية صعبة للنازحين السودانيين بمدينة طينة الحدودية ...
- الصين تحتج على تصريحات لرئيسة وزراء اليابان بشأن تايوان
- ماذا وراء حظر ألمانيا جمعية -مسلم إنتر أكتيف-؟


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية