أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -تاريخ الأعمال الفنية التي حاولت قتل أصحابها-














المزيد.....

-تاريخ الأعمال الفنية التي حاولت قتل أصحابها-


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 22:52
المحور: قضايا ثقافية
    


في الواجهة اللامعة لعالم الفن يبدو كل شيء بريئًا: لوحات تستريح في صالات العرض كالملائكة، تماثيل تقف بثبات كالأوصياء على الذاكرة، قصائد تتناثر على الورق كحبات المطر، ومقطوعات موسيقية تتهادى بأجنحة من ضوء. غير أن هذه البراءة ليست سوى قناع شفاف تغطي به الفنون حقيقتها الأعمق؛ فالفن – منذ بدء الخليقة وحتى هذه اللحظة – ليس وليدًا مطيعًا يخرج من يد الفنان، بل كائن حيّ، متوحش أحيانًا، يقتات على روح خالقه ويعيد تشكيل مصيره، حتى إذا اكتملت هيئته، وقف على جثة صانعه ليعلن ميلاده في العالم. هكذا كان الفن دائمًا، مشروع اغتيال صامت، تُدبَّر تفاصيله في عتمة الورشة، وفي وهج الاستديو، وفي اللحظة الخانقة التي تُولد فيها الفكرة الأولى، اللحظة التي يظن فيها الفنان أنه المُسيطر، بينما يكون العمل الفني قد فتح عينيه قبله وبدأ يختبر حدود قوته عليه.لا يوجد فنان كبير في التاريخ إلا وترك خلفه جزءًا مكسورًا من نفسه: أذن مبتورة لرسام، رئة منهكة لشاعر، جسد مهدود لنحات، روح معلقة لموسيقي، وقصة طويلة من المعاناة التي تُنسب تارة للظروف وتارة للقدر، بينما الحقيقة التي يغفل عنها الجميع هي أن الأعمال الفنية نفسها كانت تمسك بأطراف حياتهم وتضغط عليها حتى يخضعوا لتشكيلها. فمنذ اللحظة الأولى يبدأ العمل الفني بالمطالبة، لا يهدأ ولا يتراجع، يجبر صاحبه على السهر والقلق وتكرار المحاولة، يطارده في النوم واليقظة، في الشارع والمقهى، في غرف الضيق وحواف المدن، حتى يتعب الفنان من مقاومته ويستسلم، وعندها فقط يبدأ العمل بالتحول من فكرة إلى كائن مستقل، له إرادته، وله جوعه الذي لا يهدأ إلا حين يشرب آخر ما تبقى من طاقة صاحبه.
انظر إلى التاريخ وسترى أن كثيرًا من الأعمال العظمى كانت سبب نهايات حزينة. الشعراء ماتوا وهم يطاردون بيتًا عصيًا، والروائيون تركوا في دفاترهم صفحات ملطخة بعرق الخوف قبل أن تقتادهم السلطات بسبب كلمة لم يقصدوها، والرسامون ظلّوا أسرى لألوان لا تهدأ حتى تنالهم، أما الموسيقيون فتركوا خلفهم سيمفونيات مكتملة لم يسمعوا عزفها قط لأن أذن الفن كانت أكثر قسوة من أذن الزمن. الفن، حين ينهض، لا يرضى بأن يكون مجرد أثر، بل يريد أن يكون الأثر الوحيد، فيغدو الخالق مجرد وسيلة، مجرّد جسر تعبر عليه اللوحة أو القصيدة أو المقطوعة نحو الخلود، بينما يبقى الفنان نفسه على الهامش، متعبًا، منسيًا، أو ميتًا في أحيان كثيرة.والعراق، بخصوصيته الموجعة، قدّم للعالم أوضح نماذج هذه العلاقة الدموية بين الفنان وعمله. فالفنان العراقي لا يكتب ولا يرسم ولا يعزف من فائض وقت أو رفاهية، بل يخلق فنه على خطوط النار، في المدن التي يتجاور فيها الجمال مع الفقد، وفي الأزقة التي يتعلم فيها الطفل معنى الحزن قبل أن يتعلم معنى اللعب، وفي ذاكرة مثقلة لا تكاد تخرج من حرب حتى تدخل أخرى. ولهذا يغدو العمل الفني العراقي أكثر شراسة من غيره، لأنه يتغذى على دمٍ ساخن ووجع حيّ، ويطالب صاحبه بثمن غالٍ كي يسمح له بالبقاء. كم شاعرًا مات قهرًا بعد أن ترك قصيدته تنمو في دفاتر الناس؟ وكم رسامًا انطفأ على لوحاته؟ وكم موسيقيًا ضاع في ضجيج لا يشبه ضوءه؟ ليست مصادفات، بل هي طبيعة العلاقة بين الفن وصانعه في بلدٍ اعتاد أن يمنح الخلود لأعماله بينما يترك أصحابها يتساقطون في العتمة كأنهم فصول من رواية لم تكتمل.
إن الأعمال الفنية، مهما بدا عليها من هدوء وأناقة، تشبه الأطفال الذين يكبرون بسرعة فائقة، ويقررون فجأة الانقلاب على آبائهم كي يثبتوا وجودهم. الفنان هو أول من يوقّد النار وآخر من يحترق بها، لأنه يظن أنه يمسك بالخيوط بينما تكون الخيوط قد تشابكت حول عنقه. وما إن يخرج العمل إلى العالم حتى يتحول إلى سيد مطلق، تحميه المتاحف والصالات والقراء والجمهور، بينما يبقى صاحبه خارج كل ذلك، يشيخ قبل أوانه، ويُنسى بين الرفوف، كأنما كان مجرد عابر سبيل حمل على ظهره تحفة كي تنجو هي، لا هو.وهكذا، حين نتأمل تاريخ الفنون، لا ينبغي أن نغتر بجمال اللوحات ولا برصانة التماثيل ولا برهافة القصائد ولا بعذوبة الموسيقى؛ فخلف كل هذه الأعمال تقبع مأساة خفية، مأساة صراع بين الفنان وعمله، صراع لا يربحه الفنان أبدًا. العمل الفني هو الذي يولد معافى، شاهقًا، خالدًا، بينما يخرج الفنان من التجربة منهكًا، منقوصًا، كأن الفن قد أخذ منه شيئًا لا يسترد. ومع هذا كله، يستمر الفنانون في عملهم كمن يذهب إلى قدره طوعًا، لأنهم يعلمون أن الحياة بلا فن ليست حياة، وأن الموت من أجل عمل خالد أهون من العيش بلا أثر. تلك هي المفارقة التي لا يستطيع العقل أن يشرحها، ولا يستطيع القلب أن يتجاوزها: أن الفن يقتلنا… لكننا نعود إليه بأيدٍ مرتجفة، ونطلب منه موتًا أجمل.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -صوتٌ بخمسين ألف… وبلاد تُباع في المزاد-
- جريمة قتل الانتماء… حين ينجو الوطن ويُقتل المواطن
- -عندما يبدّل الناس وجوههم عند عتبة الباب-
- الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية
- نهاية الشعر وبداية الصمت
- صباحُكِ ريما... حينَ تبتسمُ الحياة
- نهاية الإنسان قبل موته: سقوط الوعي في زمن الآلة المقدّسة
- العراق... حين تنتخب الظلال نفسها
- القيامة التي لم ينتبه لها أحد
- عندما مات الجمال في مرآة الفن
- حين أحببتها كانت النقود لا تعرف اسمي
- خونة بغداد
- حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!
- موت الحقيقة في مقبرة الثقافة
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب


المزيد.....




- إسرائيل.. غارة على صور وتوصية بحرب على لبنان
- إسرائيل تقتل مسؤولا في حزب الله جنوب لبنان
- سوريا.. الكشف عن موعد محاكمة المتهمين في -انتهاكات الساحل-
- مقاتلات إف35 للسعودية: صفقة خلافية بين ترامب وإسرائيل
- شاهد..كيف لحقت الكونغو الديمقراطية بالملحق العالمي على حساب ...
- سوريا.. اشتباكات بين القوات الحكومية وقسد في ريف الرقة
- اليمن.. إحباط مخطط حوثي لتنفيذ اغتيالات في عدن
- واشنطن تحشد قرب فنزويلا.. أحدث حاملة طائرات تصل الكاريبي
- إيران تلجأ إلى تلقيح السحب وسط جفاف تاريخي لم تشهده البلاد م ...
- بعد 800 إفادة.. لجنة التحقيق الحكومية عاجزة عن دخول السويداء ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -تاريخ الأعمال الفنية التي حاولت قتل أصحابها-