أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -عندما يبدّل الناس وجوههم عند عتبة الباب-














المزيد.....

-عندما يبدّل الناس وجوههم عند عتبة الباب-


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 12:15
المحور: قضايا ثقافية
    


كأنّ للمساجد والحسينيات سحرًا خفيًّا يجعل روّادها يتحوّلون ـ ساعة الدخول ـ إلى أولياء بملامح منحنية، وجباه مستسلمة، وقلوب تخفق كأنها تتهيّأ للعروج. ترى الرجل وقد طوى ذراعيه كالنبيّ في موعظة، وانحنى ظهره وحده قبل الركوع، وأخذ يبكي على الذنوب التي لم يتذكرها إلا عند سماع "حيّ على الصلاة". مرهف، ساكن، يلبس ثوب الخشوع وكأنه نزل لتوّه من جبل الطور، وضميره تائبٌ إلى أن يشاء الله… أو إلى أن يُغادر الباب.ويا للعجب، ما إن يرفع أحدهم قدميه خارج العتبة حتى يقوم جسده بعملية "إعادة تشغيل" لا تفسير فسيولوجيًا لها إلا كونه اكتشف أن الضمير لا يعمل إلا داخل أماكن العبادة، وخارجها يحتاج إلى تحديث لا يصل أبداً. يخرج صاحبنا آخر الناس، فإذا به يتنفس جحيمًا، وكأن الهواء خارج المسجد محمّلٌ بإيعازات الشيطان وفق نظام "بلوتوث شيطاني" يلتقطه مباشرة. يتحول صوته من همس الذاكرين إلى صراخ الغاضبين، وتتحول نظراته من عيون دامعة إلى عيون تبحث عن خصومة، بل وتتحول يداه من سبّحاتٍ ناعمة إلى مخالب تفتّش عن مشاجرة أول فرصة.
العلم، حتى اللحظة، لم يقدّم لنا تفسيرًا واضحًا لهذا الانشطار الأخلاقي. لا أحد يعرف سرّ هذا التحوّل بالثواني، لكن بعض الفلاسفة المعاصرين يقولون إن الإنسان العراقي ـ بعد 2003 ـ تطورت لديه غدة جديدة في الجسد اسمها "غدة التظاهر"، تفرز هرمونًا قويًا يجعل صاحبه بارعًا في إظهار التقوى دون الحاجة لتطبيقها. هذا الهرمون يعمل فقط أمام الناس، أمام الكاميرات، أمام المآتم، في الجوامع والحسينيات، ولكن فور خروج صاحبه إلى الشارع، يتوقف الإفراز، وينقلب إلى هرمون آخر: هرمون "أنا أذكى من الجميع"، الذي يدفع الإنسان إلى سرقة، وظلم، واستغلال، ورفع صوته، ودهس حقوق الآخرين دون أن يرمش له جفن.ومن يتأمّل المشهد اليومي يرى العراق كأنه يعيش هو الآخر في هذا الانفصام القاسي. فالذي يصفّ يديه في الصلاة، هو نفسه الذي يصفّ الناس في طوابير الذلّ، وهو نفسه الذي يتساءل: من الذي سرق العراق؟ ثم يمرّ أمام الفساد مرور الملائكة على الجحيم دون أن تطاله شرارة. الذي يضرب صدره قائلاً: "يا لثارات المظلومين"، هو ذاته الذي لا يرفّ له جفن حين يُظلم جاره، أو يُسلب راتب فقير، أو تُنهب أموال اليتامى وقوت الأرامل. الجميع يصرخ: "الله أكبر"، لكن أحدًا لا يسأل نفسه: لماذا لا تكبر الإنسانية مثلما تكبر الكلمات؟ لماذا لا يكبر الضمير، ويكبر العدل، ويكبر الحياء؟..عندما تمشي في الأزقّة، وترى الشخوص ذاتها التي كانت تبكي خشوعًا قبل دقائق، وهي تتصرف كأن شيطانًا يقود خلاياها العصبية، تتساءل: هل المشكلة في الدين؟ لا، المشكلة في الإنسان الذي أحبّ المظهر وترك الجوهر، أراد أن يُرى صالحًا أكثر من أن يكون صالحًا. صار الدين عند البعض بطاقة عضوية في نادي الاحترام الاجتماعي، وليس ميثاقًا داخليًا يتنفسه القلب كل لحظة. صار الاستغفار طقسًا صوتيًا، لكنه لا يصل إلى الدماغ كي يمحو رغبة السرقة، ولا يصل إلى اليدين كي يمنعهما من البطش، ولا يصل إلى اللسان كي يوقف شهوة الكذب.الإنسان الذي يخرج من المسجد ويرتدي قناع الشيطان فورًا، ليس شيطانًا في الحقيقة… بل ممثلٌ بارع. مجتمعٌ كامل يتصرف كأنه يعيش في مسرح كبير، كلّ واحد فيه يلبس دور الوليّ ساعة، ودور المجرم ما تبقى من اليوم. ومن كثرة تبديل الأقنعة، نسي الناس وجوههم الحقيقية، وصار الشيطان نفسه يقف على حافة الطريق مصدومًا وهو يشاهد بعض البشر يسبقونه في الحيلة والخديعة.والمأساة الأكبر أنّنا، نحن العراقيين، نعرف الحقيقة، نراها، نعيشها، ثم نسأل ببراءة طفل: من الذي يسرق العراق؟أليس هو ذاك الذي كان يبكي أمامنا قبل ساعة في الصلاة؟ ليس جميع الناس، نعم… ولكن كثيرون إلى درجة تجعل السؤال أكبر من الجواب.يا للعراق… بلدٌ لو أقسم أهله في المساجد لجعلوا الأرض ترتجّ من الورع، ولو خرجوا إلى الحياة لارتجّت السماء من كثرة ما يُرتكب تحته.وفي النهاية، تبقى الإنسانية واقفة على التلّ، تحدّق في المشهد وتقول:"اللهم لا تعاقبنا بما نفعل، ولا بما نقول، ولا بما نُظهر… بل بما نخفي."



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية
- نهاية الشعر وبداية الصمت
- صباحُكِ ريما... حينَ تبتسمُ الحياة
- نهاية الإنسان قبل موته: سقوط الوعي في زمن الآلة المقدّسة
- العراق... حين تنتخب الظلال نفسها
- القيامة التي لم ينتبه لها أحد
- عندما مات الجمال في مرآة الفن
- حين أحببتها كانت النقود لا تعرف اسمي
- خونة بغداد
- حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!
- موت الحقيقة في مقبرة الثقافة
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة
- بلاد العبور الممنوع: انكسرت البوصلة بين دجلة والممرات.


المزيد.....




- 9 فقط حول العالم.. كاميرات ترصد صغير وحيد القرن الأسود الناد ...
- جدل بعد فيديو يزعم رش رضيعة بـ-مادة كيميائية-.. والأمن الداخ ...
- مالي: المجلس العسكري يوقف بث قناتين فرنسيتيْن لاتهامهما ببث ...
- ترامب يدرس صفقةً لبيع السعودية مقاتلات F-35 ويؤكد: سينضمون ق ...
- إسرائيل تنفي علاقتها.. ماذا نعرف عن الانفجار في دمشق حتى الآ ...
- أزمة -بي بي سي-... اليمين يشن معركة ثقافية شرسة ضد السمعي ال ...
- الصين تحذر رعاياها من السفر إلى اليابان وسط توتر سببه تهديد ...
- كيف تستفيد فلسطين وسوريا من القرار الأممي بالسيادة على الأرض ...
- ترامب يريد التحقيق بعلاقة بيل كلينتون وإبستين.. لماذا؟
- غرق عشرات الخيام بسبب الأمطار وحماس تدعو لإيصال عاجل للمساعد ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -عندما يبدّل الناس وجوههم عند عتبة الباب-