أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - جريمة قتل الانتماء… حين ينجو الوطن ويُقتل المواطن














المزيد.....

جريمة قتل الانتماء… حين ينجو الوطن ويُقتل المواطن


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 15:00
المحور: قضايا ثقافية
    


يا لها من جريمةٍ متقنة تلك التي تُرتكب كل يوم في وضح العقل، دون أن يرفّ لها جفن، ودون أن يكتشفها محقق أو يتدخل فيها قاضٍ. جريمة لا تحتاج إلى مسدس ولا إلى بصمات، لأن القاتل محترف إلى درجةٍ لا يترك فيها أثرًا، والضحية لا تصرخ، بل تبتسم. نعم… قتل الانتماء اليوم يجري بابتسامة الضحية،وبحكمة الجلاد، وبرضا الجميع، كأن العالم كله عقد اتفاقًا سريًا: «دعونا نتظاهر بأننا ننتمي… ونجعل الانتماء يموت وحده».في زمنٍ أصبحت فيه القيم مثل بطاريات الأجهزة، تفرغ بسرعة وتحتاج إلى شحنٍ يومي، قرر العالم أن الانتماء فكرة قديمة، بدائية، تشبه التلفزيون ذي الهوائي المعدني. العالم اليوم يريد هوية "واي فاي"، تتصل تلقائيًا، بلا تاريخ، بلا جذور، بلا عشيرة، بلا تربة، وبلا تلك الرائحة التي تشبه عرق الفلاحين وذكريات الجدات. يريد هوية خفيفة، لا تحتاج إلى أرضٍ تقف عليها، ولا إلى وطنٍ يثقل الكاهل. ولذلك، لم يجدوا طريقة أنجح من قتل الانتماء… قتلاً ناعمًا، أنيقًا، معقّمًا من الألم.في الماضي، كان الإنسان يبكي إذا غادر الوطن، ويتحسر إذا ابتعد عنه، ويخاف أن تضيع له رائحة أو ذكرى. اليوم، يغادر الناس الوطن كما يغادر أحدهم مطعمًا لم تعجبه نكهة الطعام. يطوي الوطن في حقيبة السفر مثل قميصٍ قديم، ويرميه لاحقًا في المغسلة إن تلطخ بشيء من الحنين. أيُّ انتماء هذا الذي نبحث عنه؟ انتماء العالم الحديث يشبه صفحة تعريف على السوشيال ميديا: مليئة بالرموز، فارغة من العمق، ولا تحتاج سوى إلى تحديث كل ستة أشهر.القاتل الحقيقي للانتماء ليس الظلم، ولا الفقر، ولا الغربة… القاتل الحقيقي هو تلك العبارة المضحكة التي تتردد في الرؤوس: «وشنو حصلت من حب الوطن؟» سؤال لو سمعه القدماء لانتحروا من الضحك، أو ربما من القهر، لأنهم كانوا يعتقدون أن الانتماء لا يأتي لمنفعة، بل يأتي للروح. أما اليوم، فيطلب الإنسان فواتير عاطفية:كم أعطاني الوطن؟ ما الفائدة من الانتماء؟ هل يأتي مع ضمان؟ وهل يشمل خدمة ما بعد البيع؟..في هذه الكوميديا السوداء، صار الوطن موظفًا فاشلًا في دائرة حكومية، يقف خلف نافذة زجاجية، يتثاءب، ويتظاهر بأنه مشغول. والإنسان يقف أمامه بطابور طويل، يحمل أوراقه، يطلب "معاملة انتماء"، فيجيبه الوطن:
«راجعنا الشهر القادم… ما عندي انتماءات جديدة هسه.»يذهب الإنسان، يعود، ينتظر، ثم يكتشف نهاية المسرحية: النافذة مغلقة… والموظف غادر… والانتماء مات من الضجر.ولأن الجريمة لا تكتمل دون مشهدٍ ساخر إضافي، قرر البعض أن يبتكر انتماءات بديلة: انتماء للمطارات، انتماء للرواتب، انتماء لمشاهير الإنترنت، انتماء لبلدان تمنح الفيزا، انتماء لشركة اتصالات إذا أعطت إنترنتًا بلا انقطاع. وأخطر هذه الانتماءات… انتماء الإنسان للغربة حتى لو كان في وسط أهله. نعم، الغربة اليوم لم تعد مكانًا بعيدًا، بل شعورًا قريبًا يسكن تحت الجلد، ويهمس في الأذن: «لا تنخدع… أنت هنا ضيف، وأقصى ما يقدمه لك هذا العالم مقعد بلا سند.»..قتْل الانتماء ليس جريمة تُرتكب على الأرض، بل تُرتكب داخل الإنسان، يومًا بعد يوم، حتى يستيقظ ذات صباحٍ فيرى أنه أصبح مثل كرسي المطار: كثير الجلوس، قليل الفائدة، دائم الانتقال. الوطن لا يُقتل، بل يتحول إلى شعار، إلى مهرجان، إلى خطابات… أما المواطن فهو الذي يُقتل، قتلاً بطيئًا، مؤلمًا، بيد الظروف التي لا يجرؤ أحد على محاكمتها.
والمأساة الأعظم أن الجميع يعرف القاتل… لكن لا أحد يجرؤ على الاعتراف، لأن القاتل يسكن فينا جميعًا. يسكن في اللامبالاة، في السخرية من الوطن، في بيع الذاكرة بأول فرصة سفر، في التعامل مع الأرض كأنها عبء. القاتل هو ذلك الصوت الذي يقول: «عادي… الدنيا تمشي». نعم، الدنيا تمشي… لكنها تمشي فوق جثة الانتماء.وفي النهاية، لا يسعنا إلا أن نضحك… ضحكة مرّة، تشبه ضحكة رجل يحرق منزله بيده، ثم يشكو من البرد. نضحك لأننا نعرف الحقيقة:
الوطن لم يمت… لكن أبناءه يتسابقون على قتله في صدورهم، ثم يقفون عند تابوته يبكون، وكل واحدٍ منهم يخفي السكين خلف ظهره.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -عندما يبدّل الناس وجوههم عند عتبة الباب-
- الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية
- نهاية الشعر وبداية الصمت
- صباحُكِ ريما... حينَ تبتسمُ الحياة
- نهاية الإنسان قبل موته: سقوط الوعي في زمن الآلة المقدّسة
- العراق... حين تنتخب الظلال نفسها
- القيامة التي لم ينتبه لها أحد
- عندما مات الجمال في مرآة الفن
- حين أحببتها كانت النقود لا تعرف اسمي
- خونة بغداد
- حين سُرِقت حاوية الزبالة… ومات الضمير في صمت الوطن!
- موت الحقيقة في مقبرة الثقافة
- نشوز الأرواح
- تبتسمُ العيونُ في وجهي
- ريما.. حين تبتسم الكواكب
- الرب الذي هرب من معبده
- الخيانة الكبرى... بين ابن العلقمي وورثة المجوس
- على عتبة الغياب
- العراق… بين الطين والوصاية
- الجادرية... المرآة التي كشفت وجه السلطة


المزيد.....




- جلبها مواطن كويتي من إيران.. داخلية الكويت تعلن إحباط تهريب ...
- ماذا نعرف عن بوعلام صنصال ولماذا أفرجت الجزائر عنه؟
- إلى أي مدى يؤثر الذكاء الاصطناعي في صناعة الإعلانات؟
- جيش السودان يستعيد مناطق حيوية والإمارات تنفي مساندة الدعم ا ...
- ما هي السيناريوهات المحتملة بشأن تصاعد حدة التوتر بين واشنطن ...
- مجلس الأمن الدولي يصوت الإثنين على مشروع قرار أمريكي بشأن غز ...
- نيجيريا تجدد رفضها لاتهامات ترامب بالإبادة
- ملتقى الحوار الوطني الثالث بإسطنبول يدعو لإعادة ترتيب البيت ...
- بسبب مخالفات.. مالي توقف بث قناتين فرنسيتين
- الجزائر تعلن إخماد كافة حرائق الغابات بـ14 ولاية


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - جريمة قتل الانتماء… حين ينجو الوطن ويُقتل المواطن