صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8525 - 2025 / 11 / 13 - 13:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقامة الأنتخابات :
تنافس آلاف المرشحين على (329 مقعداً برلمانياً) , ومئات الأحزاب والكيانات , والتباري بآلاف الإعلانات , إن لم تكن بعشرات الآلاف , نُقشت بأحلام وآمال , هذا سيوفر السكن , وذاك سيوفر الماء للبساتين التي جُرفت وتحولت إلى عمارات سكنية , ومن أعلن فتح المدارس , وإعمار المتهالك منها , وكل محافظة ستكون فيحاء العراق , لم نسمع من تحدّث عن ضبط الفساد , وجعل السّلاح بيد الدَّولة فقط , ولم تخلُ الدعاية الانتخابيَّة , مِن تشويقات طائفيَّة , فالتباري جارٍ في كل ما يجذب النّاخبين , حتَّى على المناصب السيادية الأولى , لأي طائفة أو قوميَّة ستكون؟ وطرحت حتى أسماء الدَّول التي ستكون لها حصص في النفوذ، مِن قِبل هذا النائب أو ذاك، أو الأحزاب والكيانات، فبعض الدول لها جمهورها النّاخب , فالدِّعاية تهمُّها .
تحت عنوان (( مليوصة يا حسين الصافي )) , كتب د. رشيد الخيون : هي (هوسة) لأحد الحاضرين بعد انفضاض حفل بمناسبة الإعلان عن الوحدة الثلاثية (1963): مصر والعراق وسوريا , التي ما أُعلنت إلا وتفرقت , وإثرها استبدل العلم العراقي لتشير نجومه الثلاث إلى الدولة الثلاثية , وقصتها حسب أحد رعاة الحفل في (17 نيسان 1963) , يوم إعلان الوحدة : تم تحشيد الناس من داخل النجف وخارجها , وجاء المتصرف أو المحافظ حسين الصَّافي , ومعه جماهير غفيرة من الفلاحين من لواء الديوانية , ملأت ميدان الاحتفال , ومن دون إدراك خطأ فني بالغ , لا يتناسب وهذه الجموع الغفيرة , التي جاءت لتهوس وتهتف , ووجدت المكان قد صف بالكراسي , مما يُعيق حركتها , ومتطلبات هذه الحركة , في الوقوف والجلوس على الأرض , وكان الحضور الرسمي يتمثل بمسؤولين مدنيين وعسكريين كبار قادمين مِن العاصمة , وخلال الحفل حدث ماسٌ كهربائي , أعقبه هروب من ذلك المكان , مما جعل الكراسي وهي تصطدم ببعضها وبالناس , تحدث أصواتاً أقرب إلى صوت رمي بالسلاح , الأمر الذي زاد من هلع الناس , وفرارهم جميعاً , على الرغم من كل دعوات التهدئة , التي صدرت من المسؤولين , أمام الهرج والمرج , الذي دفع الناس إلى المنصة الخشبية , وهم يهتفون ويرقصون عليها , مما أدى إلى انهيارها , وقتل طفل مغدور لجأ للاختباء تحتها , وفرغ الميدان وبقينا نحن القلة , وحدنا أمام منظر مضحك , بعد ذلك الحماس , أما بعد ما حصل فقد تدافع الناس هلعاً وخوفاً , وانقلبت الموازين , وصارت الهوسة على لسان الجميع : مليوصة يا حسين الصافي , وذهبت مَثَلاً, فمَن يرى التسابق على الفضائيات , وحشد الشَّوارع بلافتات الدعاية الانتخابيّة , ووجوه جديدة , مِن الأقارب الوارثين , في كيانات قديمة , شاركت في أول انتخابات , وهذه هي السَّادسة , وإعلانها حفظ المال العام , وإعادة بناء العراق , ومِن شدة استعطاف الجمهور بالهدايا والآمال , حضرتنا الكناية (( مليوصة يا حسين الصَّافيّ )) , يُكنى بها عن الكثرة والفوضى , عسى يا حُسين الصَّافيّ , الجميع صادقون , وليس كما قال ابن المعتز: (( آتانا بها صفراء يَزعمُ أنَّها/لتبرً فصدقناه وهو كذوبُ )) .
في هذه الانتخابات شارك جيل جديد من مواليد 2004 إلى 2007، وهم شباب لم يعيشوا حقبة النظام الوطني ولم يعرفوا صدام حسين إلا من الكتب والروايات , هؤلاء ينتمون إلى زمن مختلف , لا يجذبهم الخطاب الأيديولوجي القديم , بل يبحثون عن رؤية اقتصادية وفرص حياة حقيقية , وأدرك قادة ألأحزاب السابقة أن لغة اليوم تغيّرت , وأن الأجيال القادمة من مواليد 2008 إلى 2011 تحتاج من يخاطب طموحها لا ماضيها , فالزمن لا ينتظر أحداً , ومن لا يتغير يذوب في مجراه.
أعترف المهندس ألأستشاري عقيل التميمي , وهو مدني علماني , قائلا : (( نعلنها بصراحة وعلانية ,لقد فشلنا , نحن القوى المدنية , فشلا ذريعا في إقناع الناس بمشروعنا , لم نساوم , ولم نرشي أو نرتشى , لم نتحدث بلغة الطوائف ولم ندافع عنها , لم ننصب موائد انتخابية , ولم نوزع الهدايا والعطاءات , ولم نفتتح بيوتا للناخبين لشراء ذممهم , فشلنا لأننا لم نجيد فن التفاوض فيما بيننا ولأن نرجسيتنا كانت أعلى من إيثارنا , وحبنا للتشتت أقوى من تمسكنا ببعضنا , لا نجيد النفاق , لكننا بارعون في الانشطارات , أيقنت نحن متخلفون سياسيا , لا القديم منا تنازل عن بعض أفكاره ولا الجديد تقبّل القديم منا , مثقفنا تائه بين زوايا المقاهي , وتفعيلة القصيدة , وأديبنا يبحث عن منحة رئيس الوزراء , أما نوابنا المستقلين فوجوه للخيبة , شعبنا ما زال يعيش في غياهب الجُب , يقف على أبواب الفساد طمعا في سلة غذاء , لم نتغير كثيرا عن الزمن السابق , فالزبائنية ارتدت ثوب الطائفية بدل الزيتوني , والديمقراطية لم تنفعنا كما لم ترحمنا الديكتاتورية , والجهل ما زال يتربص بنا حتى صار وحشا مهيبا يلتهم كل وعيا وفكرا , أما برلماننا القادم , فسيرسخ الفساد والميليشيات والهويات الفرعية على حساب هوية الوطن ومصلحة المواطن , إنتظروا الأسوء )) .
يقول د. محمود الجاف : ها هي الوجوهُ القديمةُ تعود من شقوق الذاكرة , نفس الأصوات التي وعدت بالفجر فأنجبت ليلًا بلا نجوم , نفس الأصابع التي لطّخت الورقَ بالحبر, فكتبت شهادةَ موتٍ جديدةً للوطن , الشعبُ العظيمُ في مأساته , يرى اللصَّ يثرى فيحسده على ذكائه , ويرى الشريفَ يُسجن فيتّهمه بالغباء , صار الذلُّ فنًّا , والسكوتُ صلاةً , والخيانةُ مذهبًا رسميًا في الأخلاق , وقديما قال نيتشه :(( من يحيا طويلاً في القاع , يبدأ في عشق الظلام )) , وأنا أقول : من يحيا طويلاً في بلادي , يتعلّم كيف يضحك في جنازته , لكن حتى في القاع , ثمة شرارةٌ صغيرةٌ تتغذّى من الرماد , أولئك الذين ما زالوا يكتبون بأصابعهم المكسورة , الذين يصرخون في وجه الخراب , هؤلاء هم آخرُ رسلِ الوعي , آخرُ خيطٍ بين الله والإنسان , مباركٌ لكم أيّها الساجدونَ للجلّاد , فقد فاز مرشّحكم : الذلُّ المطلق .
علقت السيدة ولاء العاني : (( مأساة الوطن بدأت عندما صار حرام علينا حتى ان نحلم بنجوم تتلألأ في سماءه , التي امتلأت بغبار الخبث , ولقامات انحنت للعباءة قبل البسطال )) , جريمتان لا يغفرهما لنا التاريخ : أن نعلي من شأن التافهين , وأن نستخف بالعلماء والعباقرة .
كتب ابراهيم البهرزي : (( في ديمقراطية العراق لا أحد يصغي لصوت الفقير الذي ظل يترقب ساعات الفرج والانفراج , وينتظر انطلاق مشاريعهم الاصلاحية والتنموية لحقبة مشرقة واعدة , ربما يبقى منعزلا في بيئته البعيدة , لا يسمعه أحد , ولا يراه السياسيون إلا في مواسم مواهبهم الاستعراضية , وربما ينشغل الكبار بمصالحهم ومكاسبهم ومنافعهم , وهناك من يقول: انهم قرروا تحسين أداءها هذه المرة بما يخدم الناس , واغلب الظن انهم سوف يمارسون هواياتهم في لعبة المحاصصة , فيتقاسموا الكعكة كما لو كانت من حقوقهم الدستورية الموروثة , أو كأن الانتفاع شرط من شروط عملهم تحت خيمة السيرك السياسي ؟ واخطر ما ينبغي ان يدركه الناس أن العثرات عندما تتكرر تصبح عادة , وتصبح مشهداً مألوفاً , فتتوقف لغة العتاب والحساب , ويصبح العراقي غريبا في وطنه , أو مهمشاً في بلاده , لا يتذكرونه إلا عند اقتراب موعد الدورة البرلمانية السابعة , ثم يأتي وقت يعلن فيه المواطن مقاطعته النهائية للانتخابات , ربما ما زال قلبه ينبض بالأمل , لكن مشاعره صارت متبلدة كمن فهم أن فشلهم ليس فعلا استثنائيا بل جزء من دورة موسمية تتكر كل اربع سنوات , من دون ان تغير جلبابها المستهلك )) .
(( تعطي الصورة الاولى لنتائج الانتخابات عن اكتساح جارف لارادة الريف والأطراف على مقدرات المدن الكبرى والصغرى في العراق , وهذه الهزيمة المدنية ليست نتاج اللحظة الراهنة بل هي تراكم هزائم تتوالى منذ عقود طويلة كان ضحيتها الطبقة الوسطى اداة التمدن والتحضر , لقد كان العراقُ , حتى السبعينات , مجتمعًا مدنيًا متحضّرًا : فبغداد تقرأ , وتغنّي , وتفكر , ثم جاء الطوفان من الريف , من الثكنة , ومن الخطاب الذي يقدّس القوة ويحتقر العقل , ثم تحوّلت المدينة إلى ضحية تاريخٍ جديد , لا يؤمن بالجمال ولا الاختلاف , لقد فسد الذوق تماما وحين تموت الذائقة , يموت كل شيء بعدها , واصبحت الانتهازية والتملق من القيم الاجتماعية الأصيلة والشطارة ومكارم الأخلاق , ولم ينتصر التخلف لأنه أذكى , بل لأن الحداثة في العراق لم تتجذر يومًا , كانت زينة خارجية تتباهى بها فلول المثقفين المنعزلين عن عامة الشعب , ففقدت القيم المدنية كل تراثها , بل انسحبت هجرة وتهجيرا مع أهلها المقتلعين من أمكنتهم وأزمانهم وسادت الهجنة في كل شيء , حيث يعمل قانون الاقتصاد حول العملة الرديئة التي تطرد العملة الجيدة وحين انهار السقف , سقف الدولة والقيم , عاد الناس إلى الكهوف الأولى : حيث العشيرة , والطائفة , والزعيم , فالهمجية لا تولد فجأة , إنها تعود كلما نام الوعي وكلما نسي الناس , وأن الحضارة ليست مبان عمودية ومولات ومطاعم فاخرة و(براندات ) , بل هي ضمير , محض ضمير راح يتلاشى تحت وطأة الأنانية والزيف )) .
نشر جاسم الزاملي رسالة عتاب الى السيد رائد فهمي : (( عزيزي الاخ رائد فهمي ليس نقيصه عندما اقول لم اسمع بك سابقًا سنوات السبعينيات ضمن الكوادر المهمه بالحزب الشيوعي , ولم اقرأ اسمك في طريق الشعب , او مجلة الثقافه الجديده , وكل كراريس الشيوعيين عبر تاريخه في السبعينيات حتى وقت انتهاء الجبهة مع البعث , اريد القول ان مشاركة الشيوعيين بالانتخابات كان خطا , لانهم كعادتهم حتى في الماضي لم يقرأون الواقع الصح , اي انسان عادي تسأله بالشارع من سيفوز سيقول لك تلك الوجوه السابقه هي من تفوز , جميع الفصائل المسلحه التي لها علاقه مع ايران والبرزاني والسنه ينتخبون اصحاب النفوذ والمال والسلاح , انتم لامن اصحاب النفوذ ولاأصحاب السلاح , دخولكم فشله جبيره , اما ان تقول تزوير وغير ذالك , قد يحصل , ولكن مايحصل وياكم وانه تبرير للفشل لأن وجودكم لايشكل اي تاثير على الواقع السياسي لا اليوم ولا مستقبلا )) .
وفي نهاية هذه الدورة , حيث تتكرر المأساة كطقسٍ موسميّ , ويُعلن البرلمان القادم عن ولادة جديدة لذات الأوجه والسياسات , لا يبقى لنا سوى إدراك الحقيقة القاسية: أنَّ هزيمة المدن , ليست هزيمة صندوق أو قائمة , بل هي هزيمة الوعي المُتراكم أمام غريزة العشيرة والمنفعة الآنية, إنَّ التخلف لم ينتصر بذكاء , بل بغياب ثمن حقيقي يُدفع من أجل التغيير , وعليه , فليست المقاطعة النهائية هي الحل , بل هو الجهد المضني لإيقاظ الضمير الذي تلاشى تحت وطأة الأنانية والزيف, فحتى في القاع الذي نخشاه , لا تزال شرارة صغيرة تتغذّى من الرماد , وهي الشرارة التي يجب أن تضيء طريق السابعة , إذا كنّا لا نريد أن نستمر في الضحك على جنازة الوطن, ولعلَّ الذاكرة المنهارة للناس , هي الحصن الأخير الذي يجب أن نبنيه قبل أن يكتمل مشروع (مليوصة يا حسين الصافي) على كلِّ ما تبقَّى من أحلام.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟