أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة القيمر الأسمر.















المزيد.....

مقامة القيمر الأسمر.


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 14:37
المحور: الادب والفن
    


مقامة القيمر الأسمر:

حَدَّثَنا الشَّيخُ أَبُو بَكرٍ الرّازيُّ , رَحِمَهُ اللهُ , قال : بَينَما كُنتُ أَطوِي الفَيافِيَ وَالبِيدَ , وَأَذرَعُ المَدائِنَ وَالقُرى , إِذ أَفضَيتُ إلى مَجلِسٍ بِهِ مِن شُموسِ الأَفاضِلِ وَأَقمارِ الأَماثِلِ صَحْبٌ كِرامٌ , فَسَمِعتُ شَيخًا قَد عَلا شَيبُهُ وَجَليلُ خِبرَتِهِ مَجلِسَهُ , يُفَرِّغُ مِن جُعبَةِ عُمرِهِ عِبرَةً , وَيَسْتَطْرِدُ في عِلمِ الغَرامِ وَبَديعِ الوَصفِ في الكَلامِ, فَأَنشَدَنا عَن خَليلٍ لَهُ بَلَغَ السَّبعِينَ , وَلَم يَبرَحْ يُنازِعُ العِشقُ فُؤادَهُ , حَتَّى جَعَلَ وَصفَ سَمرَاءِهِ بِـ (( القِيمَرِ)) , فَلَمَّا اعْتَرَضَتْهُ حَبيبَتُهُ بِأنَّ القِيمَرَ أَبْيَضُ ناصِعٌ , أَجابَها بِفَيضٍ مِن جَمالِ اللُغَةِ وَسِحرِ التَّشبِيهِ , قائِلاً : (( بَلْ هُوَ قِيمَرٌ مُعَسَّلٌ بِالدِّبسِ )) , فَوَاللهِ لَقَد قَفَزْتُ مُستَنكِرًا ذَلِكَ القِياسَ , مُتَخَوِّفاً عَلَيهِ جَفوَةَ الحَبيبَةِ , غَيرَ أَنَّ الشَّيخَ ضَحِكَ ضَحكَةً كانَت كَأَنَّها نَهْرٌ مُتَدَفِّقٌ , فِيهِ عَذبُ الوِصالِ وَمَرارَةُ الفِراقِ , وَأَنشَدَني بَيتًا قالَتهُ الحَبيبَةُ في جَفائِهِ: (( قَيْمَر بَعْد مَا أَرِيد , مَا أَشْتَهِي رُيُوقْ )) , مُبَيِّنًا أَنَّ لُغَةَ القُلُوبِ تَجُوعُ لِلحَبيبِ كَمَا تَجُوعُ لِأَطيَبِ المَأكُولَاتِ , ثُمَّ أَخَذَ يُسهِبُ في الرَّدِّ عليها , وَهُوَ مَغمُورٌ بِطَوفانِ العِشقِ الّذي جَعَلَهُ حائِراً بَينَ القِيمَرِ وَالنِّستِلَةِ .

قال الشَّيخُ أَبُو بَكرٍ الرّازيُّ , أنشدني صاحبي السبعيني ما قالته له الحبيبة : (( قيمر بعد ماريد ما اشتهي ريوكَ , بيضة وصرت بجفاك ع الطاوة مسلوكَ )) , فقال الشيخ : ألا تراها في وصفها لجفائي قد غاصت في بحر الطعام مثلي ؟ إنها لغة القلوب التي تجوع للحبيب كما تجوع للقيمر, ثمَّ أخذ يصفُ ردّه عليها , وقد تملّكهُ العشقُ حتى جعلهُ حائراً بين القيمر والدبس والنستلة , فقال مُسهباً في مدح سُمرتها وحلاوتها التي فاقت حلاوة المأكولات كلها : (( عَسَل , كِيمَر, شَكَر , بخدودج لكيت , شنهي ربج خالقج من نستله ؟ وآني اكول السُكَر اجتاح العراق , ثاري انتي اسباب هاي المشكله , من تفوتين بدرب ياخذ سلام , الكاع توكفلج تكلج يا هلا , الناس هسه بمرحلة اولى جمال , وانتي من سنين بآخر مرحله , انتي اهلج بالصغر ما كحلوج , انتي من اجيتي من السماء مكحله )) .

وهنا , استطرد الشَّيخُ أَبُو بَكرٍ الرّازيُّ في شرح سرِّ هذا الوصف العجيب , مُبيِّناً علّةَ الربط بين الخد والقيمر في الذاكرة العراقية : ماذا يرتبط خد الحبيبة عند العراقيين بالقيمر؟ في الشعر والغناء , وفي مديح خد الحبيبة , يستعمل العراقيون القيمر مقياساً للجمال , في وصف شدة جمال الخد وترافته , إنّه وصف يدلّ على الجوع , جوع العين قبل البطن , جوع العاشق الذي يرى في طراوة خد الحبيبة ما يوازي طراوة أشهى المأكولات , والـ (( كيمر)) هو سيدها , هو الوصف الذي يُترجِم الشهيَّ بالشهيِّ , ويجعل من الجمال قُوتًا للروح ومَلاذًا للحواس , وقد استرسل شاعرنا السبعيني في غزله بلونه المعسَّل هذا , ذاهبًا إلى أعمق من مجرد لون , بل إلى مذاق الجمال , وحلاوة المَطْعَم والمَنظَر , فماذا قال عندما سألتهُ مرةً : (( أحقّاً القيمر هو أجمل ما رأت عيناك؟ )) , قال : (( يا بِنت الأصول , القيمر أبيض ناصع , وأنتِ سمراءُ دافئة , الفرق بينكما كالفرق بين القمر المُكتمل وشمس الأصيل, ذاك يُنير الليالي , وأنتِ تُضيئين الروح والنهار , لكنَّ القاسم المشترك هو الطيبة والطراوة والـغِنى الذي يُشبع النظر, ألا تَرين أنَّ وجهكِ حين تبتسمين يصبح كطبقِ قيمرٍ عُلِّقَ عليه قليلٌ من دبس التمر الأصيل؟ حلاوةٌ مُضاعَفة , لونٌ لا يقاوم , أنتِ يا سيّدة العراقيات , لستِ مجرد قيمر , بل أنتِ قِصعة القيمر التي لا يُمكن الشبع منها )) , واستدرك في وصفه لحالة العشق التي يثيرها هذا الجمال , قائلاً في إحدى الأمسيات الشعرية التي خصّصها لمدحها: (( يا سُمرة وخدودچ مثل صينية المِحَلاَّة , بس خَدچ بالطيب غَلَب حتّى الـحلاوة , شلّي بحليب وقيمر وأنا عيوني شِبْعات , من شفتچ كِسِرْت الجوع ورَفَضت الـغَداوة , أنتِ الـقوت وأنتِ الـنصيب وأنتِ الـنوايب , أنتِ سوالف الـدجلة والفرات , مو بس سوالف بَغْداوة , الـقيمر ينوصف بالـترافة والليونة , وإنتي الـترافة إلچ صارت حلاوة , مو بس سُمرة , إنتي لون الزيتون ونكهة الهيل , ما أظن ربِّچ خَلَق هالشكل بِالهَواوة )) .

فالقيمر في وجدان البغداديين والجنوبيين , ليس مجرّد طعام , بل هو رمز الدلال والطراوة والصباح النقي , وحين يُخلط بالدبس الأسمر , يجمع بين نضارة البياض ودفء السُمرة , ليصبح الوصفُ كاملاً للحبيبة السمراء التي تفوق بحلاوتها حلاوة المذاق كله ,وكيف لا يكون القيمر مقياساً , وقد وصل وصفه إلى حدِّ أن يكون القيمرُ نفسهُ هو البائعُ وهو الحبيبةُ , كما روى الشاعر الشعبي الكبير, فقال الشيخ السبعيني مُستشهداً : يقول الشاعر الشعبي عريان السيد خلف , رأيت امرأة تبيع قيمر, ولكن في غايه الجمال , فقلت لها : (( كلشي شفت كلشي العبت حته العبت مرجوحه , بس ماشفت مثلچ انا , گيمر يبيع بروحه )) .

إنّ هذه المقارنة بين خد الحبيبة والـ(( قيمر )) , هي في جوهرها احتفاءٌ بالخير والبركة واللذة البسيطة في الحياة العراقية , حيث يصبح الجمالُ محسوسًا ومُشتهىً كأفضل ما تُقدّمه الأرض , لقد وصل الأمر بالعشاق إلى أن جعلوا من سوق (( القيمر)) مقياساً للقاء والود , فإذا تغنّى العاشق بالقيمر, فكأنه يُرسل لها موعداً في أرقى الأماكن وأكثرها طهارة , لأن القيمر لا يُباع إلا في الصباح الباكر , حيث النقاء وندى الفجر , وذات مرة , مرّت به وهي تحمل طبقاً من القيمر , وقد تلطّفَت الشمس بلمسة خفيفة على خدّها الأسمر , فارتجل الشاعر وصفاً صارخاً للجمال الذي يبيع الجمال : (( شِفْت الكيمر يغار من خدودچ الحلوة , صاح : ياللّه يا رَب , شِنهي هالوَلوَة ؟ , الكيمر أبيض, بس ما بيه حَرارَة , وأنتِ سُمرة , وكلّچ طيب وطَراوَة , القيمر يحتاج خبز حار أو صمّون , حتى يكتمل بيه الـريوگ والهَواوَة , بس أنتِ مَو بس قيمة وجَمال , أنتِ كل وِجْبَة , وكل سَماوَة , شلون ما ينوصف خدچ بالـدبس والـتَمِر, وهنّه أصل الـجَمال وكل حَلاوة ؟ إذا الكيمر ينوكل مرة بالصباح , جمالچ صار الـقوت والـدَوا وكل مُساواة , صِرتي يا سُمرة مثل شَهْد العسل في قِصعة الكيمر , المَذاق والمنظَر والرِيحَة , كلّها بيچ بِالحَلاوَة )) , إنها ليست مجرد مقارنة , بل هي فلسفة عراقية للجمال , تقول إن الشيء لا يُقدّر بثمن إلا إذا لامس الروح وأشبع الحاجة الأساسية , وكما أن القيمر يُشبع البطن ويُنعش الروح , فكذلك جمال الحبيبة يُشبع العين ويُغني القلب عن كلّ زائل.

فهذه هي الحقيقةُ أيّها السادة: بين بياض القيمر وسُمرة الدبس والتمر , تتجسّد حكاية هذا الوصف الشعريّ الذي رفعَ خدَّ الحبيبة السمراء من مجرّد ملمح إلى قيمةٍ غذائيةٍ وجماليةٍ لا تُضاهى , إنَّه لم يكن مجرّد قيمر , بل كان القيمر المُعسَّل بدبسِ العشق , والمَطليِّ بشهوةِ النظر , فيا لَلَّه , ما أعظمَ هذا الإسراف في الغزل , وما أصدقَ هذا التشبيه الذي جمع بين نقاء الريف ودفء التمر وطَراوة الوجوه, إنَّها لغةٌ لا يفهمها إلا مَن ذاقَ قِصعةَ القيمر على ضفاف دجلة , وتأمَّلَ سُمرةَ الحبيبة تحتَ شمسِ الرافدين , لِيُدركَ أنَّ الحُبَّ في العراق يبدأُ بـ(( بسمةٍ حلوةٍ )) , ويَنتهي بـ (( لُقمةٍ شهيّةٍ )) , وأنَّ القيمر الأسمر ليس مجرّد مُسمَّى , بل هو تاجُ الجمالِ العراقيِّ الذي لا يُنازعهُ في العرشِ أحد.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة الفلْس الدّوّانِقِي : نوادر البخلاء ومآثرهم .
- مقامةُ الأفندي تحسين في بَتانِ بغدادَ وبَطِّها .
- الغطرسة : الداء والجلاء .
- مقامة العبارة الضيقة : ما أوسع رؤيتها ؟
- مَقَامَةُ الْأَحْفَادِ وَمَتَاعِبِ الْأَجْدَادِ .
- مقامة شذرات من السيرة الذاتية .
- مقامة نجاة الصغيرة : ( الضوء المسموع ) , وهمسٌ يغوص في أعماق ...
- المقامة البغدادية في تَلَوُّنِ الأوطانِ وبكاءِ الأحياءِ .
- مقامة أللاأنجابية : في زمن الروبوتات والمنتحرين .
- مقامة الهدم: جرافات تهاجم ذاكرة العراق الثقافية .
- مقامة ابن باديس والتنوير: الأذهان أولاً , ثم الأوطان .
- مقامة الفصام .
- مقامة العطارين : أسرار عمرها 4600 عام .
- مَقَامَةُ حِكَايَاتِ النَّمْلِ .
- مقامةُ الرجاءِ في زمنِ الحيْصَ بيْص .
- مقامة السلطة والفكر .
- مقامة غادة وغسان : حقيقة الحب ووهم الوصال .
- مقامة اكسير الشباب .
- مقامةُ الشَّيخِ في ذمِّ الرَّشوةِ وتزيينِها بالهديَّة .
- مقامة دزني .


المزيد.....




- مكتبة الملك عبدالعزيز تطلق فيلم الحج -على خطى ابن بطوطة-
- الجمال آخر ما تبقى من إنسانيتنا
- -ستيريا-: أول مهرجان ستاند أب كوميدي في سوريا!
- أبوالغيط يؤكد أهمية الثقافة كجسر للتواصل في العلاقات الدولية ...
- زلزال في -بي بي سي-: فيلم وثائقي عن ترامب يطيح بالمدير العام ...
- صورة -الجلابية- في المتحف تثير النقاش حول ملابس المصريين
- مهرجان -القاهرة السينمائي- يعلن عن أفلام المسابقة الدولية في ...
- زلزال في -بي بي سي-: فيلم عن ترامب يطيح بالمدير العام ورئيسة ...
- 116 مليون مشاهدة خلال 24 ساعة.. الإعلان التشويقي لفيلم مايكل ...
- -تحيا مصر وتحيا الجزائر-.. ياسر جلال يرد على الجدل حول كلمته ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة القيمر الأسمر.