صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 00:32
المحور:
الادب والفن
مَقَامَةُ حِكَايَاتِ النَّمْلِ :
الحمد لله رب العوالم , والصلاة والسلام على نبيّنا خاتم المرسلين الأعاظم , وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم في الأواخر والأوائل , أَمَّا بَعدُ يَا أَصحَابَ المَعَالِي وَالخَفَقَانِ , وَيَا رِجَالَ البَيَانِ وَالبُنْيَانِ , فَإِنِّي رَاوٍ لَكُم اليومَ مَقَامَةً سَمَّيتُهَا (( حِكَايَاتُ النَّمْلِ )) لَعَلَّ فِيهَا عِبْرَةً تُذْهِبُ بَعضًا مِنَ السِّجْنِ وَالكَمَدِ , وَتُوقِظُ القُلُوبَ مِن سُبَاتِ الجَسَدِ , قَالَ شَيخُنَا أَبُو الحَسَنِ , وَقَدِ استَوَى عَلَى مَجْلِسِهِ بَينَ النَّاسِ وَعَلَى وَجْهِهِ بَعضُ الوَسَنِ : يا قَومُ , هَل سَمِعتُم يَوْمًا بِمَثَلٍ يُضرَبُ , أَوْ حِكمَةٍ تُكتَبُ , عَن مَخْلُوقٍ صَغِيرٍ قَد عَظُمَ بِفِعَالِهِ ؟ قَد كَانَ الشَّاعِرُ أَحْمَدُ الصَّافِي النَّجَفِيّ فِي وَصْفِ النَّمْلَةِ بَلِيغًا لِمَن تَدَبَّرَ مَقَالَهُ : ((هُمَامَةُ نَفْسٍ لَم تُفَاخِرْ بِنَفْسِهَا فَأَعْمَالُهَا تُنْبِي عَنِ العَزْمِ لا الدَّعْوَى )) .
وَقِيلَ فِي الأَمْثَالِ مَا يُذْهِلُ الفِطْنَةَ وَالخَطَرَاتِ : (( لَو تَعْلَمُ النَّمْلُ الجِدَالَ , فَلَنْ يَجِدَ مَا يَتَنَاوَلُهُ فِي البَرْدِ وَالشِّتَاءِ )) , بَلْ وَفِي أَيَّامِنَا , نَرَى كَيفَ يُشَبِّهُ البَعْضُ دُخُولَ الهَدْمِ وَالخِذْلانِ فَيَقُولُ : (( لَمْ يَدْخُلْ إِلَيْهِودُ مِنْ حُدُودِنَا , وَإِنَّمَا , تَسَرَّبُوا كَالنَّمْلِ مِنْ عُيُوبِنَا )) , ثُمَّ التَفَتَ الشَّيخُ وَأَشَارَ إِلَى شِقٍّ فِي حَائِطِ المَجْلِسِ قَائِلًا : أَلَا تَرَوْنَ تِلْكَ النَّمْلَةَ السَّاكِنَةَ فِي ذَلِكَ الشَّقِّ ؟ إنَّهَا تَتَجَوَّلُ فِي عَالَمٍ صَغِيرٍ لَا يَزِيدُ قُطْرُهُ عَنْ نِصْفِ مِتْرٍ, تَعْمَلُ طُولَ حَيَاتِهَا عَمَلًا وَاحِدًا لَا يَتَغَيَّرُ , هُوَ نَقْلُ فَتَافِيتِ الخُبْز , تَظُنُّ بِجَهْلِهَا أَنَّ الكَوْنَ كُلَّهُ هَذَا الشَّقُّ الصَّغِيرُ, وَأَنَّ غَايَةَ الحَيَاةِ تِلْكَ الفُتْفُوتَةُ , ثُمَّ لَا شَيْءَ وَرَاءَ ذَلِكَ , وَهِيَ مَعْذُورَةٌ بِقَدْرِ مَا تَذْهَبُ إِلَيْهِ حَوَاسُّهَا.
أَمَّا الإِنْسَانُ , الَّذِي كَرَّمَهُ رَبُّهُ بِالعِلْمِ وَالإِدْرَاكِ , فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّقَّ شَرْخٌ فِي حَائِطٍ , وَالحَائِطَ فِي غُرْفَةٍ , وَالغُرْفَةَ فِي شَقَّةٍ , وَالشَّقَّةَ فِي عِمَارَةٍ , وَالعِمَارَةَ فِي حَيٍّ , وَالحَيَّ فِي بَلَدٍ , وَالبَلَدَ فِي قَارَّةٍ كَأَفْرِيقِيَا , وَمِثْلَهَا أَرْبَعٌ أُخَرُ عَلَى كُرَةٍ سَابِحَةٍ تُسَمَّى الأَرْضَ , بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ الأَرْضَ وَاحِدَةٌ مِنْ كَوَاكِبَ تَدُورُ حَوْلَ شَمْسٍ فِي مَجْمُوعَةٍ , وَالمَجْمُوعَةَ تَدُورُ حَوْلَ مَجَرَّةٍ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مِلْيُونِ شَمْسٍ , وَيَا عَجَبًا , هُنَاكَ مِائَةُ أَلْفِ مِلْيُونِ مَجَرَّةٍ أُخْرَى , كُلُّ هَذَا فِي سَمَائِنَا الدُّنْيَا الوَاحِدَةِ مِنْ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ , وَفَوْقَهَا كُلِّهَا يَسْتَوِي إِلَهُنَا الخَالِقُ عَلَى عَرْشِهِ , يُدَبِّرُ هَذِهِ الأَكْوَانَ مِن أَكْبَرِ مَجَرَّةٍ إِلَى أَصْغَرِ ذَرَّةٍ .
كُلُّ هَذَا يَعْلَمُهُ الإِنْسَانُ عَلَى وَجْهِ اليَقِينِ , وَمَعَ ذَلِكَ , فَكَمْ مِنْ أَشْبَاهِ النَّمْلِ بَيْنَنَا , يَعِيشُونَ سُجَنَاءَ مَحْصُورِينَ , كُلُّ وَاحِدٍ مُنْغَلِقٌ دَاخِلَ شَقِّ نَفْسِهِ , يَتَحَرَّكُ فِي دَائِرَةٍ مَحْدُودَةٍ مِنْ أَمْتَارٍ, يَدُورُ دَاخِلَ حَلَقَةٍ مَفْرَغَةٍ مِنْ هُمُومٍ ذَاتِيَّةٍ تَبْدَأُ وَتَنْتَهِي عِنْدَ فُتْفُوتَةِ خُبْزٍ وَشَهْوَةٍ , ثُمَّ لَا شَيْءَ وَرَاءَ ذَلِكَ , لِمَاذَا ؟ وَقَدْ وُهِبُوا العِلْمَ وَالخَيَالَ وَالذَّكَاءَ , أَكْثَرُ النَّاسِ قَوَاقِعُ وَسَلَاحِفُ وَنَمْلٌ , يَغْلِقُ أَحَدُهُم عَلَى نَفْسِهِ قَوْقَعَتَهُ دَاخِلَ جُحْرٍ مُظْلِمٍ ضَيِّقٍ مِنَ الأَحْقَادِ وَالأَضْغَانِ وَالأَطْمَاعِ , وَهَذَا مَغْلُولٌ فِي رَغْبَةٍ أَكَّالَةٍ فِي الانْتِقَامِ , يَصْحُو وَيَنَامُ فِي قُمْقُمِ كَوَابِيسَ لَا يَجِدُ لِنَفْسِهِ خَلَاصًا , وَذَاكَ قَدْ غَرِقَ فِي دَوَّامَةِ أَفْكَارٍ سَوْدَاوِيَّةٍ , أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ زِنْزَانَةَ الكَآبَةِ وَاليَأْسِ .
أَيُّهَا القَوْمُ , العَالَمُ وَاسِعٌ فَسِيحٌ , وَإِمْكَانِيَّاتُ العَمَلِ وَالسَّعَادَةِ لَا حَدَّ لَهَا , وَفُرَصُ الاكْتِشَافِ تَتَجَدَّدُ كُلَّ لَحْظَةٍ , فَلِمَاذَا نَسْجُنُ أَنْفُسَنَا دَاخِلَ شَقٍّ كَالنَّمْلَةِ ؟ وَلِمَاذَا نَسْرِقُ وَنَغْتَصِبُ , وَالخَيْرَاتُ مَطْمُورَةٌ فِي الأَرْضِ بِلا حُدُودٍ؟ أَلَا نَنْظُرُ إِلَى هَذَا الكَوْنِ البَدِيعِ بِمَا فِيهِ مِنْ جَمَالٍ وَنِظَامٍ وَحِكْمَةٍ ؟ أَلَا يُوحِي هَذَا بِإِلَهٍ عَادِلٍ لَا يُخْطِئُ مِيزَانُهُ , كَرِيمٍ لَا يَكُفُّ عَنِ العَطَاءِ؟ لِمَاذَا لَا نَخْرُجُ مِنْ جُحُورِنَا وَنَكْسِرُ قَوْقَعَاتِنَا ؟ لِمَاذَا لَا نَخْرُجُ مِنْ هُمُومِنَا الذَّاتِيَّةِ لِنَحْمِلَ هُمُومَ الوَطَنِ الأَكْبَرِ, ثُمَّ نَتَخَطَّى الإِنْسَانِيَّةَ , ثُمَّ نَتَخَطَّى إِلَى اللَّهِ الَّذِي جِئْنَا مِنْ غَيْبِهِ وَمَصِيرُنَا إِلَى غَيْبِهِ ؟ لِمَاذَا نَنْسَى أَنَّ لَنَا أَجْنِحَةً فَنَكْتَفِي بِالالْتِصَاقِ بِالجُحُورِ فِي جُبْنٍ وَنَغُوصُ فِي الطِّينِ .
ثُمَّ اعْلَمُوا يَا رَعَاكُمُ اللَّهُ , أَنَّ هُنَاكَ نَمْلًا أَعْمَى يُسَمَّى (( النَّمْلَ الجَيْشِيَّ )) , يَعْتَمِدُ عَلَى الشَّمِّ فَقَطْ , يُقَلِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا , يُطْلِقُ القَائِدُ مِنْهُ الفَيْرُمُونَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الرَّائِحَةِ , فَإِذَا خَطَأَ سَيْرُهُ وَرُسِمَ الخَطُّ بِشَكْلٍ دَائِرِيٍّ , سَارَ النَّمْلُ كُلُّهُ فِي حَلَقَةٍ مَفْرَغَةٍ , يَدُورُ فِيهَا حَتَّى يَقْتُلَهُ الإِنْهاكُ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِ عَلَى السَّيْرِ الجَمَاعِيِّ الأَعْمَى , تِلْكَ هِيَ (( طَاحُونَةُ النَّمْلِ )) , تِلْكَ الطَّاحُونَةُ هِيَ الَّتِي تُصَوِّرُ مَا تَفْعَلُهُ التَّبَعِيَّةُ العَمْيَاءُ لِسُلُوكِ الجَمَاعَةِ , المُؤَدْلَجَةِ بِفَيْرُمُونِ الفِكْرَةِ , قَالَ الحُكَمَاءُ : (( تَخَيَّلْ نَمْلَةً صَغِيرَةً عَلَى ظَهْرِ فِيلٍ إِفْرِيقِيٍّ ضَخْمٍ , لَا يَهُمُّ كَمِ اجْتَهَدَتْ تِلْكَ النَّمْلَةُ فِي المَشْيِ بِاتِّجَاهِ الشَّرْقِ , إِذَا كَانَ الفِيلُ الَّذِي تَجْلِسُ عَلَى ظَهْرِهِ يُسَافِرُ فِي الاتِّجَاهِ المُعَاكِسِ , سَوْفَ يَنْتَهِي المَطَافُ بِالنَّمْلَةِ أَبْعَدَ نَاحِيَةَ الغَرْبِ مِنْ نُقْطَةِ البِدَايَةِ )) , وَهَكَذَا نَحْنُ , نَبْتَعِدُ عَنْ أَهْدَافِنَا إِذَا كَانَتْ عُقُولُنَا الوَاعِيَةُ وَاللَّاوَاعِيَةُ غَيْرَ مُتَّسِقَةٍ .
فَيَا رِجَالَ الأُمَّةِ , لِمَاذَا نُسَلِّمُ أَنْفُسَنَا لِلْعَادَةِ وَالرُّوتِينِ المُكَرَّرِ وَنَنْسَى أَنَّنَا أَحْرَارٌ فِعْلًا ؟ لِمَاذَا أَكْثَرُنَا نَمْلٌ وَصَرَاصِيرُ؟ لِمَاذَا لَا نَتَحَرَّرُ مِنَ (( الفِيلِ )) الَّذِي فِي شَخْصِيَّاتِنَا , الَّذِي يَمْنَعُنَا مِنْ مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ , وَنَتْرُكُ النَّمْلَةَ تَسِيرُ بِاتِّجَاهِ هَدَفِهَا ؟ وَلَقَدْ صَدَقَ فِتْيَانُ الشَّاغُورِيِّ حِينَ قَالَ فِي مُقَارَنَةٍ بَلِيغَةٍ : (( أَجْنِحَةُ النَّمْلِ إِذَا مَا بَدَتْ بِجِسْمِه دَلَّتْ عَلَى فَقْدِهِ )) , فَخُرُوجُ النَّمْلَةِ لِلطَّيَرَانِ هُوَ نِهَايَتُهَا , فَلَا تَكُونُوا كَالنَّمْلَةِ تَطِيرُ بِجَنَاحِهَا لِلْمَوْتِ , بَلْ بَادِرُوا إِلَى الحُرِّيَّةِ وَالارْتِفَاعِ بِالعِلْمِ وَالإِدْرَاكِ , قَدْ قُلْتُ قَوْلِي هَذَا , وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ , فَتُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَاكْسِرُوا شَقَّ الحَائِطِ قَبْلَ أَنْ تَأْكُلَكُمْ (( طَاحُونَةُ النَّمْلِ )) , والسَّلَامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟