صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 23:25
المحور:
الادب والفن
مَقَامَةُ الجُهَّال :
حَدَّثَنَا هِشَامٌ البَغْدَادِيُّ قَالَ : لَمَّا ضَاقَتْ بِيَ الدُّرُوبُ فِي زَمَنِ الفِتَنِ , وَكَثُرَ فِي الأَزِقَّةِ العَيَّارُونَ وَالشُّطَّارُ , وَعَلا صَوْتُ البَاطِلِ حَتَّى كَادَ يُخْفِتُ صَوْتَ الحَقِّ , خَرَجْتُ أَطُوفُ فِي دُرُوبِ بَغْدَادَ , أَلْتَمِسُ فِي وُجُوهِ النَّاسِ بَقِيَّةً مِنْ رَشَدٍ , أَوْ أَثَارَةً مِنْ عِلْمٍ , فَبَيْنَمَا أَنَا أَجُولُ فِي كَرْخِهَا , وَقَدْ تَعَالَتِ الأَصْوَاتُ وَاخْتَلَطَ الحَابِلُ بِالنَّابِلِ , إِذْ رَأَيْتُ جَمْهَرَةً مِنَ النَّاسِ قَدْ تَحَلَّقُوا حَوْلَ شَيْخٍ مَهِيبِ الطَّلْعَةِ , أَغْبَرَ الثَّوْبِ , وَقَدْ جَلَسَ عَلَى دُكَّانٍ عَتِيقٍ, كَانَ نُورُ الحِكْمَةِ يَفِيضُ مِنْ عَيْنَيْهِ , وَفِي صَوْتِهِ جَهْوَرَةٌ تَشُقُّ صَخَبَ السُّوقِ , فَعَرَفْتُهُ , إِنَّهُ الشَّيْخُ المَنْدَلاَوِيُّ الجَمِيلُ , لِسَانُ الحَقِّ فِي زَمَنِ الغُثَاءِ, فَأَقْبَلْتُ أَزْحَمُ النَّاسَ حَتَّى صِرْتُ أَسْمَعُ مَا يَقُولُ , فَإِذَا بِهِ يَخْطُبُ فِيهِمْ قَائِلاً : يَا أَهْلَ بَغْدَادَ , يَا مَنْ شَرِبْتُمْ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ حِكْمَةً وَبَيَانًا, مَا لِي أَرَى الجَهْلَ فِيكُمْ فَاشِيًا , وَالحِكْمَةَ تَئِنُّ فِي زَوَايَا النِّسْيَانِ ؟ أَتَانِي نَبَأُ القَوْمِ وَقَدْ صَدَقَ فِيهِمْ قَوْلُ شَاعِرِ الجَاهِلِيَّةِ الأَفْوَهِ الأَوْدِيِّ , حِينَ قَالَ : (( لاَ يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لاَ سَرَاةَ لَهُمْ وَلاَ سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا )) , فَوَاللهِ إِنَّهَا الحِكْمَةُ البَالِغَةُ, فَإِنَّ الأُمَّةَ بِلاَ قَادَةٍ فَوْضَى , وَلَكِنَّ الكَارِثَةَ العُظْمَى حِينَ يَكُونُ قَادَتُهَا جُهَّالاً, الجَهْلُ يَا قَوْمِ لَيْسَ غِيَابَ مَعْلُومَةٍ , بَلْ هُوَ عَتْمَةٌ تَسْكُنُ الأَرْوَاحَ , فَتَتَمَدَّدُ كَالدُّخَانِ , هَادِئَةً , نَاعِمَةً , قَاتِلَةً, لاَ يَدْخُلُ المُدُنَ عَلَى دَبَّابَةٍ , بَلْ يَنْتَصِرُ حِينَ يَتَثَاءَبُ العَقْلُ , وَيَنَامُ الضَّمِيرُ , وَيُصَفَّقُ لِلتَّافِهِ لأَنَّهُ (( ابْنُ الوَاقِعِ )) .
كُنْتُ أَعْبُرُ ذَاتَ عَشِيَّةٍ أَزِقَّةَ بَغْدَادَ , وَقَدْ خَفَّتِ الرِّجْلُ وَعَمَّ الصَّمْتُ , إِلَّا مِنْ هَمْهَمَاتِ الْعَيَّارِيْنَ وَهَمَزَاتِ الشُّطَّارِ, فَرَأَيْتُ حَلْقَةً مِنَ النَّاسِ مُجْتَمِعَةً , وَفِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ رَجُلٌ مُهْتَرِئُ الثَّوْبِ , جَاحِظُ الْعَيْنَيْنِ ,يَتَصَدَّرُ الْكَلامَ وَيَرْفَعُ الْعَقِيْرَةَ , وَحَوْلَهُ وُجُوْهٌ قَدْ غَشِيَهَا الذُّهُوْلُ , تَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا اسْتِعْجَابًا , وَتَهُزُّ رُؤُوْسَهَا طَرَبًا لِجَهْلٍ مُنَمَّقٍ وَبَاطِلٍ مُزَخْرَفٍ ,فَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ : (( اَيُّهَا النَّاسُ , مَا لَكُمْ وَلِلتَّفْكِيْرِ؟ دَعُوْكُمْ مِنْهُ , عِيْشُوْا حَيَاتَكُمْ )) , فَكَأَنَّ الْحَيَاةَ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ أَنْ نُفَكِّرَ وَنَخْتَارَ , وَكَأَنَّهُ يَدْعُوْهُمْ إِلَى مُسْتَنْقَعٍ آسِنٍ , إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَزٍّ وَمِلْحٍ , يَجِدُوْنَ فِيْهَا لَذَّةَ الْبَقَاءِ , لِأَنَّهُمْ أَلِفُوا الطِّيْنَ الَّذِي يَشُدُّهُمْ إِلَى الْأَسْفَلِ , فَالْجَهْلُ لَيْسَ فَقَطْ غِيَابَ مَعْلُوْمَةٍ , بَلْ هُوَ غِيَابُ رُوْحٍ , هُوَ عَتْمَةٌ تَسْكُنُ الْعُقُوْلَ , فَتَرَى الْجَاهِلَ يَكْذِبُ بِثِقَةٍ , وَيَظْلِمُ بِجَهْلٍ , وَيُفْسِدُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا , يَمْشِي بِثَبَاتٍ نَحْوَ الْهَاوِيَةِ , وَقَدْ يُغَنِّي فِي الطَّرِيْقِ.
ثُمَّ عَلَا صَوْتُ الْخَطِيْبِ الْجَاهِلِ مَرَّةً أُخْرَى , فَوَلَّيْتُهُ ظَهْرِي وَأَنَا أُكَمِلُ فِي نَفْسِي أَبْيَاتَ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ الَّتِي تَنْطِقُ بِالْحَقِّ الْمُبِيْنِ : (( تُهْدَى الْأُمُوْرُ بِأَهْلِ الرُّشْدِ مَا صَلُحَتْ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ )) . نَعَمْ , إِذَا انْكَفَأَ أَهْلُ الرُّشْدِ , وَصَمَتَ الْعَارِفُوْنَ , فَرِغَتْ سَاحَاتُ الْقَرَارِ لِلْجُهَّالِ وَالْأَشْرَارِ, فَالْجَهْلُ يُرَبِّي الطُّغَاةَ , وَيُبَرِّرُ الْفَسَادَ , وَيَمْنَحُ الْخَوَنَةَ غِطَاءَ الْفَضِيْلَةِ , إِنَّهُ الْمَوْتُ , وَلَكِنَّهُ مَوْتٌ فِي هَيْئَةِ حَيَاةٍ , وَلَكِن النُّوْرَ لَا يَمُوْتُ , قَدْ يَنْتَصِرُ الْجَهْلُ لَحْظَةً , لَكِنَّ كُلَّ لَحَظَاتِهِ تَظَلُّ تَرْتَعِدُ مِنْ سُؤَالٍ وَاحِدٍ بَسِيْطٍ : (( مَاذَا لَوْ اسْتَيْقَظَ النَّاسُ؟ )) , وَمَضَيْتُ فِي طَرِيْقِي , وَصَدَى هَذَا السُّؤَالِ يَدُقُّ فِي رَأْسِي كَمَطَارِقِ الْحَدَّادِيْنَ , وَيَتْرُكُ فِي الْقَلْبِ أَمَلًا كَنَجْمَةٍ تَتَلَأْلَأُ فِي أَشَدِّ اللَّيَالِي حُلْكَةً.
رَحِمَ اللهُ أَبَا العَلاَءِ المَعَرِيَّ حِينَ قَالَ: (( لَمَّا رَأَيْتُ الجَهْلَ فِي النَّاسِ فَاشِيًا , تَجَاهَلْتُ حَتَّى ظُنَّ أَنِّي جَاهِلُ )) , وَلَكِنْ , هَيْهَاتَ أَنْ نَتَجَاهَلَ, فَالجَاهِلُ لاَ يَعْرِفُ , وَتِلْكَ مُصِيبَةٌ, وَالأَدْهَى أَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ , فَيُفْسِدُ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا, يَمْشِي إِلَى الهَاوِيَةِ بِثَبَاتٍ وَقَدْ يُغَنِّي فِي الطَّرِيقِ , فَإِذَا حَكَمَ الجَهْلُ أُمَّةً , صَارَتْ فَرِيسَةً, يَتَعَصَّبُ النَّاسُ فِيهَا لأَسْمَائِهِمْ وَطَوَائِفِهِمْ , لاَ لِقِيَمِهِمْ, تُهْدَرُ الثَّرَوَاتُ , وَيُهَمَّشُ العُلَمَاءُ , ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: (( هَذِهِ إِرَادَةُ اللهِ )) , وَلَقَدْ صَدَقَ ابْنُ رُشْدٍ حِينَ قَالَ : (( إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَتَحَكَّمَ فِي جَاهِلٍ , فَعَلَيْكَ أَنْ تُغَلِّفَ كُلَّ بَاطِلٍ بِغِلاَفٍ دِينِيٍّ )) , فَيَا لَهَا مِنْ فِتْنَةٍ حِينَ يَأْتِي كَلاَمُ أَهْلِ الجَهْلِ مُنَمَّقًا مُزَخْرَفًا بِـ (( قَالَ اللهُ )) , وَ (( قَالَ رَسُولُهُ )) , ثُمَّ عَلَّقَ الشَّيْخُ نَظَرَهُ فِي وُجُوهِ الحَاضِرِينَ وَقَالَ: أَلاَ فَاعْلَمُوا أَنَّ دَاءَ الأُمَمِ دَاءَانِ , كَمَا لَمَحَ الأَفْوَهُ فِي بَيْتِهِ: الفَوْضَى بِلاَ قِيَادَةٍ , وَالقِيَادَةُ بِلاَ رَشَدٍ, وَالثَّانِيَةُ أَشَدُّ خَطَرًا , لأَنَّ الأُمُورَ تُهْدَى بِأَهْلِ الرُّشْدِ مَا صَلُحَتْ , فَإِنْ تَوَلَّوْا أَوِ انْكَفَؤُوا , تَوَلَّاهَا الأَشْرَارُ وَالجُهَّالُ فَانْقَادَتْ بِهِمْ إِلَى البَوَارِ.
فَلاَ تَكُونُوا كَتِلْكَ الشُّعُوبِ الَّتِي تَجِدُ لَذَّتَهَا فِي البَقَاءِ فِي مُسْتَنْقَعِ الجَهْلِ , تَخَافُ مِنْ نُورِ العَقْلِ لأَنَّهَا تَعَوَّدَتْ عَلَى طِينِ التَّخَلُّفِ يَشُدُّهَا إِلَى الأَسْفَلِ , اِنَّ الجَهْلَ لَنْ يَنْتَصِرَ لأَنَّهُ قَوِيٌّ , بَلْ لأَنَّ الوَعْيَ قَدْ تَعِبَ , وَالحَقَّ قَرَّرَ أَنْ يَصْمُتَ , قَلِيلاً, وَلَكِنَّ النُّورَ لاَ يَمُوتُ , وَسَيَظَلُّ الجَهْلُ يَرْتَعِدُ مِنْ سُؤَالٍ وَاحِدٍ: مَاذَا لَوِ اسْتَيْقَظَ النَّاسُ ؟ ثُمَّ نَهَضَ الشَّيْخُ المَنْدَلاَوِيُّ , وَنَفَضَ عَنْ ثَوْبِهِ الغُبَارَ, وَقَدْ عَلَتْ وَجْهَهُ غَيْمَةٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَارْتَسَمَتْ عَلَى شَفَتَيْهِ ابْتِسَامَةٌ تَخْلِطُ الْعَسَلَ بِالْمَرَارَةِ , وَمَضَى يَشُقُّ الزِّحَامَ وَهُوَ يَتَمْتِمُ : (( فَلْنَحْذَرِ الجَهْلَ , فَإِنَّهُ المَوْتُ , لَكِنَّهُ مَوْتٌ فِي هَيْئَةِ حَيَاةٍ )) ,قَالَ هِشَامٌ: فَبَقِيتُ وَاقِفًا فِي مَكَانِي , وَقَدْ أَخَذَتْ كَلِمَاتُهُ بِمَجَامِعِ قَلْبِي , فَالْتَفَتُّ إِلَى رَجُلٍ بِجَانِبِي وَسَأَلْتُهُ: أَتَعْرِفُ هَذَا الشَّيْخَ ؟ فَقَالَ: (( ذَاكَ الشَّيْخُ المَنْدَلاَوِيُّ الجَمِيلُ , إِذَا رَأَى الدَّهْرَ قَدِ اعْوَجَّ , قَوَّمَهُ بِلِسَانِهِ , ثُمَّ يَخْتَفِي فِي أَزِقَّةِ بَغْدَادَ كَأَنَّهُ مَا كَانَ )) .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟