صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8485 - 2025 / 10 / 4 - 15:13
المحور:
الادب والفن
مقامة الخطو وحيدا :
استحضر مجلس صالون الدكتور تحسين طه أفندي اليوم عبارة الشاعر العراقي سعدي يوسف (( أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي )) , وهي جزء من قصيدة للشاعر تعبر عن التفرد والوحدة في مسيرة الحياة رغم الانخراط في حياة الآخرين والمجتمع , وهي تعكس شاعرية الشاعر وإحساسه بالعزلة الداخلية وسط الزحام , حيث يراقب العالم من مسافة , ويلهو بمسيرته الشعرية الخاصة, و تفسر العبارة التناقض الظاهري فهي تجمع بين شيئين متناقضين : (( المشي مع الجميع )) , أي الوجود في مجتمع والاندماج مع الناس , و(( خطوتي وحدي )) أي الشعور بالعزلة والخصوصية في المسيرة , فرغم محبة الشاعر للجميع والاندماج الاجتماعي , يظل لديه عالم داخلي خاص به , ويستطيع أن يراقب العالم واللغة والزمن من موقع التفرد, كما تعكس العبارة أيضاً قدرة الشاعر على الاعتماد على نفسه في مسيرته , وعدم الحاجة إلى الآخرين لتوجيه خطاه أو تحديد مساره , وقد استخدم سعدي يوسف هذه العبارة كصورة شعرية ليعبرعن حالته كشاعر في مسيرته الإبداعية والفكرية , وهي صورة تترجم ما كان يعيشه من تجارب ودراسات, و تعكس العبارة استقلالية الشاعر وقدرته على تكوين رؤيته الخاصة عن العالم من حوله , بأختصار, العبارة تعبر عن رحلة حياة يقوم بها الشاعر مع الآخرين , ولكن بشكل مستقل , محافظاً على خصوصية ذاته وعالمه الداخلي وسط الحياة الاجتماعية.
أثار سعدي يوسف الشاعر العراقي الذي رحل في لندن عن 87 عاماً , والذي أوصى بجنازةٍ بلا مشيّعين , أسئلة وإشكالات كثيرة , فهل كان موقف سعدي يوسف المعارض للاحتلال , موقفاً عادياً وعابراً , أم أنه الموقف الوطني الموضوعي والأساسي والثقافي الصحيح والمطلوب؟ ولا أظن أن شاعرا عربيا قد بنى الصورة الشعرية كما بناها وأقامها سعدي يوسف , كما ان التصاقه بالشعب لم يدفعه إلى تمجيد أبطال حزبه الشيوعي كما فعل كثيرون , ولا مكان للزعيم الأوحد في شعره , لقد اجترح لغة رشيقة خفيفة , على الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر, متجاوزاً كلّ قديم , لقد اقترب من الناس والحياة كما يهوى , وأنصت عميقاً إلى ذاته , أكثر من ستين عاماً من الشعر والثقافة والسياسة والسفر والترحال والمنفى الدائمي والخيارات الصعبة والحساسة في كل شيء , ومن ثم التجربة السياسية الأخيرة , والموقف الوطني الصارم من الاحتلال , وقضايا الخلاف والاختلاف والمناكفات والنقد الحاد والجارح والعزل المبيت والصراعات ورذاذ الشتائم المتطاير و(الهرطقات السياسية والشخصية) ولغتها الخاصة والمتعبة , الحاصل , إن سعدي يوسف الشاعر بيننا , بما له , وما لنا منه أو (ما نلنا منه من شعر) , يقف بيننا ومعنا , أو كما قال هو (أسير مع الجميع وخطوتي وحدي) , يدقق ويلعب ويطلق قصائده وموسيقاه الداخلية ولغته وتجاربه , ويحقق التجاوز , ويلهو بعزلته الأثيرة , حيث يراقب منها العالم والطبيعة واللغة والزمن , بدهشة شاعر , وينجو من الرتابة والخمول والجمود , ويقيم علاقته مع القصيدة والكلمة والريح والشجر والماء , ويثير الجدل المتواتر, وغباره في أحيان كثيرة , ويطلق طيراً أو ديواناً ً للناس والشعر, لقد كانت أبرز تجارب سعدي يوسف , بعد الشعر طبعاً , ممارسة الحرية بلا حدود .
تقوم العبارة على جزأين متوازيين يعبران عن فن التوازن بين الانخراط في المجتمع والتمسك بالذات , (( أمشي مع الجميع )) : هذا الجزء يعبر عن الاندماج الاجتماعي والمرونة , والتفاعل والقبول , فالشخص هنا يظهر الانفتاح على المحيطين به , يشاركهم في مناسباتهم , يستمع لوجهات نظرهم , ويتعامل معهم بود واحترام , إنه جزء فاعل من النسيج الاجتماعي , لا يعزل نفسه أو يتكبر, وهذا يتيح له التعلم والاطلاع, والمشي مع الجميع يعني الاستفادة من تجاربهم المختلفة والتعرف على تنوع الآراء وسبل الحياة , أما (( وخطوتي وحدي)) , فهذا الجزء هو جوهر العبارة , ويعبر عن الاستقلال الفكري والشخصي , وتعني أن الشخص رغم تفاعله مع الآخرين , إلا أن قراراته النهائية , قناعاته الأساسية , وأهدافه الخاصة لا تُملى عليه من الجماعة , ف(( الخطوة )) هي الاستراتيجية والمسار الذاتي في الحياة , وهذا ليس نفاقًا , بل إدارة للذات, إنه يشاركهم الطريق لوقت , لكنه يحتفظ بالبوصلة التي توجهه هو فقط , قد يبتسم لهم ويشاركهم الحديث , لكنه لا يتبنى رأيهم إذا كان مخالفًا لمبادئه أو منطقه , وهو وحده من سيتحمل نتائج خطوته , ولذلك لا يترك مصيره للتيار الجمعي.
لماذا لا تعني النفاق (الاجتماعي أو السياسي) دائمًا ؟ لأن النفاق , سواء كان اجتماعيًا (مجاملة كاذبة لإرضاء الناس) أو سياسيًا (إظهار الولاء مع إخفاء العداء) , يقوم على التزييف المتعمد وإخفاء الحقيقة بنية الخداع أو الكسب , في المقابل , فإن عبارة (( أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي)) تعبر عن : الجانب ألأيجابي , والحكمة والدبلوماسية في التعامل , وألأحترام المتبادل مع الحفاظ على الخصوصية الفكرية , والأستقلالية في أتخاذ القرار , والتكيف الواعي وليس الذوبان الخانع , خلاصة القول , العبارة هي دعوة لـ(( المرونة دون انكسار )) , و(( الاجتماعية دون ذوبان )) , ان الشخص الذي يتبنى هذه العبارة هو شخص قوي الشخصية بما يكفي ليتمكن من الاستماع للجميع دون أن يفقد صوته الخاص, هو يحضر المأدبة الاجتماعية أو يجلس في مجلس السياسة , يتبادل الحديث ويحترم الحضور , لكنه عندما ينهض ليخطو خطوته التالية في الحياة , فإنه يتبع خارطة طريقه التي رسمها هو لنفسه , لا الخرائط التي وزعها عليه الآخرون .
تحمل عبارة الشاعر العراقي سعدي يوسف: ))أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي )) وهي جزء من قصيدة بعنوان يحمل نفس العبارة , دلالات عميقة ومزدوجة , تجمع بين التناقض الظاهري والوحدة الداخلية , مما يمنحها دلالة مزدوجة : قوة إيجابية متمثلة في الأصالة والاستقلال , وعبء سلبي متمثل في العزلة والمعاناة الداخلية , ويمكن تلخيص الجوانب الإيجابية فيها كما يلي:
1. الاستقلال والتميز : تعكس العبارة قوة الشخصية والقدرة على الانخراط الاجتماعي (( أمشي مع الجميع )) , مع الحفاظ على الرؤية الخاصة والمنهج الفردي في التفكير والحكم (( وخطوتي وحدي )) .
2. الوعي والبصيرة : تدل على أن الشاعر أو المتحدث ليس مجرد تابع للقطيع أو مجاراة للآخرين , بل يمتلك بصيرة خاصة تقوده , حتى وهو يسير في المسار العام , هو يشارك الناس حياتهم لكنه يحتفظ بنقد داخلي , أو طريق خاص لم يزل لم يشارك فيه أحد.
3. العمق الداخلي: هي إشارة إلى الثراء الداخلي الذي لا يحتاج إلى الآخرين لكي يتأكد من صحة مساره , هو يسير بهدوء بين الجموع , لكنه يسعى وراء أهدافه وقناعاته التي رسمها لنفسه وحده.
4. الالتزام بالمبادئ : تعني القدرة على الانخراط في المجتمع والعيش فيه دون التنازل عن المبادئ والقيم الجوهرية التي يؤمن بها الفرد , مما يمنحه قوة معنوية كبيرة في مسيرته.
أما الجانب السلبي : العزلة والمعاناة الداخلية حيث يشير التناقض بين المشي مع الجميع والخطوة الفردية إلى إحساس بالوحدة الداخلية على الرغم من الوجود بين الناس، ويمكن تلخيص الجوانب السلبية فيها كما يلي:
1. الوحدة والعزلة الداخلية: على الرغم من الوجود الجسدي مع الآخرين , إلا أن العبارة تحمل دلالة الوحدة الوجودية أو الشعور بالاغتراب , فـ (( خطوتي وحدي )) , تعني عدم وجود شريك حقيقي في الفكر أو الروح ,، مما يولد إحساساً بالانفصال والوحدة وسط الجموع.
2. المعاناة النفسية: قد تشير إلى أن الخطوة التي يسير بها الشاعر خطوة صعبة أو مُتعبة يتحمل عبئها وحده , هو يرى ما لا يراه الجميع , ويسير في طريق لا يستطيعون فهمه أو مشاركته فيه , مما يثقل كاهله.
3. صعوبة التعبير والفهم: تحمل معنى الفشل في التواصل أو صعوبة نقل الرؤية الخاصة إلى الآخرين , هو مضطر للمشي معهم ظاهرياً لأنه جزء من هذا العالم , لكنه يعجز عن أن يجعلهم يشاركونه جوهر خطوته.
4. الاغتراب عن الواقع المشترك: قد تدل على عدم الاندماج الحقيقي في مصير الجماعة أو عدم القدرة على الانتماء الصادق , مما يجعله غريباً عن المحيط الذي يعيش فيه.
الخلاصة : تجسد العبارة حالة التناقض الخلاق في حياة المبدع أو المفكر, فهو يعيش حالة من التفاعل الظاهري (( أمشي مع الجميع )) , والانعزال الباطني (( وخطوتي وحدي )) , هذا التناقض هو مصدر قوته وفرديته (إيجابي) , وهو في ذات الوقت مصدر لمعاناته ووحدته (سلبي ) .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟