أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الخذلان .














المزيد.....

مقامة الخذلان .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 16:26
المحور: الادب والفن
    


مقامة الخذلان :

يتساءل دوستويفسكي متعجبًا: (( كيف احتملت فكرة أنك تركت ثغرة مؤلمة في صدر أحدهم سترافقه طوال حياته, ثم مضيت هكذا دون أن تكترث لشيء؟ )) تلك هي تراجيديا الخذلان , ويُعرف الخذلان لغويًا بأنه مصدر للفعل (( خذل )) , ويعني ترك الشخص أو عدم نصرته , أما اصطلاحيًا فهو ترك العون والنصرة لمن يعتمد عليك ويظن بك خيراً , إنه شعور قاسٍ ومؤلم , وجع غير متوقع من مصدر غير متوقع , وأشد مرارة من العداوة , لأن العدو لا يُتوقع منه سوى الأذى , بينما الخذلان يأتي ممن تُحب وتثق.

عند الجاحظ , يرتبط الخذلان بالانهيار الأخلاقي والضعف أمام الأعداء , وينتج عن الكبر والغرور الذي يؤدي إلى الهزيمة والخيبة , ويستعيذ الجاحظ بالله من الخذلان , ويصفه بأنه حالة من السقوط الروحي والمعنوي , حيث يبتلى الإنسان بالفقر الشديد أو كثرة العيال , جاعلاً إياه تركاً إلهياً للعبد الذي تقاعس , ولعل أصدق ما كُتب عن الخذلان يتجلى في قول جبران خليل جبران: (( ولكنك ارتضيت لي الأذى , وأنا الذي كنت أحسبك أرقُّ على قلبي مني , فالخذلان بأن استثنيك من بين الجميع وأحارب بِك الدنيا فتحاربني أنت والدنيا معاً )) , لذا يوصي ناصحاً: (( لا تبالغوا في الحب , ولا تبالغوا في الاهتمام والاشتياق , فخلف كل مبالغة صفعة خذلان )) .

فيودور دوستويفسكي يتنهد بحزن ليقول : (( يا سادتي , لقد سرقوا مني كل شيء تقريبًا , ثم أعطيتهم ما تبقّى من تلقاء نفسي )) , هذا الشعور بالاستنزاف العاطفي هو ما يجعل الخذلان درساً عميقاً في الحياة , درساً يفهمه المحبون المخلصون , في زمن الحرب العالمية الثانية , وبينما كان الناس يموتون في غرف الغاز, كان هناك حب يولد بين جبهات القتال , حبٌ جمع بين المعتقل المنسي وحبيبته البعيدة , كان يناجي صورتها على هيئة غيمة , ويؤمن أن من يحبونه لا يمكنهم أبداً أن يخذلونه حتى في مجرد الشعور به , هذا هو المغزى : أن لا تخذل من ألقى في سلة روحك كل مشاعره وصدقه , دون أن ينتظر منك سوى الحب بجميع أشكاله , لا تخذلوا من يضعون ثقتهم بكم , فأنتم الأعلون الذين منحناهم أصدق المشاعر.

يتجلى إبداع ليو تولستوي في طرحه السوداوي المعبّر: (( يا سيدي , إن من يخونوك كأنهم قطعوا ذراعيك , تستطيع مسامحتهم لكنك لا تستطيع معانقتهم )) , فتأمل معي , الخذلان قد يأتيك من شخص, أو وطن , أو حتى من نفسك حين تتعلق بآمال وأحلام كان من العسير عليك ترويضها , لا يُوجَد أحَدْ مَضمُون فِي هذَه الدنيَّا , فحَتَّى قُلوبَنَا التِي هِي لَنَا سَتَخْذِلُنَا يَومَاً مَا وتَتَوَقفُ عِنْ النَبْض , وقمة الخذلان أن تسكنه عينيك , فيصب الرمد فيها ويذهب , أن تسكنه روحك فيحرقها بلهيب جحوده ويرحل , ولكي لا نسمح لِلخُذلان بِالتسرُب إلينا , علينا ألا نَرفع سقف توقعاتنا بأحد , فالحياة همست يوماً : لا تُعوِّل على الآخرين , ولا تَعقد خط آمالك على سبل السراب.

لقد تعمّق عرّاب الإلهام والفكر أحمد خالد توفيق في وصف سيكولوجية الخوف حين قال: (( كطفل هرول إلى أمّه ليحتضنها فتلقى صفعة ليكفّ عن البكاء , هكذا هو الخذلان )) , ومن منا لم يتجرع مرارة الخِذلان؟ الكلّ قد أخذ نصيبهُ منه بنسب مُتفاوتة , إنّ الخِذلان في وقعِه على النّفس أقسى من أيّ شيء آخر, لأنه نابع من مدى محبتِنَا وثقَتنا بالطّرفِ الآخر, فكلّما كان الشّخص قريباً , كلّما كان الألم والخيبة أكبر, حين تأمل وترتجي منهم فيصفعونك بخيبة تلو الخيبة , يظهر لك زيفُ العلاقة , وترتطمُ أنت بواقع مرير كان صوب عينيك منذ البداية لكنّك كُنت غافلاً.

إننا نعيش اليوم الوجه القاتم لـ (( مكر التاريخ)) , هذه الفكرة الهيغلية تؤكد طابعها المأساوي فوق أرضنا وفي زماننا هذا , حيث تنهض الشعوب للتضحية والاستشهاد , فتنصب في النهاية حكومات محافظة ومتخاذلة ضد نضالاتها , فتكون الحكومة المعوّل عليها هي الوبال الأكبر على الشعب , وتعمل كخادم مطيع للإملاءات التحكمية , والسباق نحو مراكمة المصالح الخاصة , وهنا يتجرع الجميع مرارة الخذلان , إلّا أنه خذلان يُقسّم على الطوائف والقوميّات بعد أن تحوّل قادتها إلى ما يُشبه مديري حكومة احتلال , ومرارة الخذلان مُرعبة إذا ما تمّ تجرّعها من دون أن يلحقها دواء شافٍ لها , فكلّ انفلات سيحصل اليوم أو غداً لا يتحمّل مسؤوليته المحتجّون , وإنما أولئك النهابون الذين تركوا ثُلث المجتمع تتعارك مصارينه بسبب الجوع , وتركوا العراقيين بلا حقوق تضمنها الشرائع كلها : الكرامة , والأمن , والغذاء , والسكن , والتعليم , والطبابة والخدمات.

صباح الزهيري.



#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة حب كونفوشيوس .
- مقامة المهذب الرقيق .
- مقامة نباح المناهج وذبابها : أدب المقاومة الفكرية.
- مقامة أموت نظيفًا .
- مقامة حمالة الحطب : من شرر الشوك إلى رماد الأمة .
- مقامة عروس غاندي .
- مقامة حكمة قَعْنَب .
- مقامة الدگة الخزعلية : بين الوشم والغدر.
- مقامة ديالى شقائق النعمان .
- مقامة الطروس .
- مقامة النقيق في قاع بئر: العراق بعد 2003.
- مقامة فلسفة الفقر .
- مقامة الغيوم .
- مقامة مادلين أولبرايت : عندما تتحدث الدبابيس .
- مقامة الأنسان وباء .
- مقامة الأقتران الشرطي .
- مقامة أصنام العقل .
- مقامة الرسيس .
- مقامة لحن القول .
- مقامة في مسار التاريخ ومآلاته .


المزيد.....




- معرض علي شمس الدين في بيروت.. الأمل يشتبك مع العنف في حوار ن ...
- من مصر إلى كوت ديفوار.. رحلة شعب أبوري وأساطيرهم المذهلة
- المؤرخ ناصر الرباط: المقريزي مؤرخ عمراني تفوق على أستاذه ابن ...
- فنانون وشخصيات عامة يطالبون فرنسا وبلجيكا بتوفير حماية دبلوم ...
- من عروض ايام بجاية السينمائية.. -بين أو بين-... حين يلتقي ال ...
- إبراهيم قالن.. أكاديمي وفنان يقود الاستخبارات التركية
- صناعة النفاق الثقافي في فكر ماركس وروسو
- بين شبرا والمطار
- العجيلي... الكاتب الذي جعل من الحياة كتاباً
- في مهرجان سياسي لنجم سينمائي.. تدافع في الهند يخلف عشرات الض ...


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة الخذلان .