صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 13:48
المحور:
الادب والفن
مقامة في مسار التاريخ ومآلاته :
يقول المندلاوي الجميل تحت عنوان (( ختامها مسك )) أنه بعد قراءة 489 صفحة من مذكرات مكرم الطالباني , فهو يختتمها بحكمة بالغة تقول : (( يجب أن لا نبقي انفسنا فوق التاريخ , فان التاريخ لا يرحمنا , فلم يرحم فعلا أولئك الذين لم يتعلموا منه , ومن لايرحم شعبه , لا يرحمه التاريخ )) , ويتمنى لو استفاد منها ولاة الامر في الشرق , مايقصده الطالباني ان التاريخ لم يصنع لمجرد استذكار الماضي واستعراض الأحداث والوقائع التي تخللت محطات تحوله وسيرورات تطوره , وإنما للاستفادة من دروسه واستخلاص العبر من عضاته , التي من دون استخلاص مضامينها واستلهام دلالاتها , سيبقى الإنسان / المجتمع يكرر أخطاء مواقفه ويقع في محظورات أفعاله , ولعل مظاهر التخلف الاجتماعي والعنف السياسي والتطرف الإيديولوجي الضاربة أطنابها في بلدان العالم الثالث , قمينة بتقديم البراهين الدامغة على تبعات ارتكاب مثل تلك الأخطاء والمحظورات .
كان إبن خلدون قد كتب : (( مَنْ لم يقرأ التاريخ فقد عاش عصره فقط , و مَنْ قرأ التاريخ فقط عاش الدهر كله )) , و التأريخ كالعجينة يصنع منها الأقوياء ما يرغبون , لصنع الأساطير التي تخدم مصالحهم , ويوظفون غيرهم لتمجيد أفعالهم وتسطير مآثرهم , وحجب مثالبهم , ويغدقون عليهم فيكتبون , فكيف يصح في الأفهام تصديق ما يسطرون ؟ , مشكلة التأريخ أن صناعه لا يكتبونه , ومن يكتبه يمزج بين أهوائه وتصوراته , فيرسم صورة قد تقترب أو تبتعد عن الحدث , فيتحول ما دونه إلى خبر بحاجة إلى تمحيص وتدقيق , تجد أن الأقوياء يتأسدون , وعلى الضعفاء يتسيدون , ولفرائسهم يمتهنون ويعذبون , وإنهم المنتصرون , وبأمجادهم يتفاخرون , وحولهم الرعية صاغرون , وفي حرمانهم وخنوعهم يتمرغون , وهكذا فأن الكثير من المدونات مكتوبة بمداد الكراسي , ويتضح ذلك بإخراجها أصحابها من بشريتهم , وتضفي عليهم ما لا يتوافق وبديهيات الطبيعة والسلوك , وكما قال الرصافي : (( إذا شط جيل خط من جاء بعده , أكاذيب عنه بالثناء تزوق , فما كتب التأريخ في كل ما روت , لقرائها إلا حديث ملفق , نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا , فكيف بأمر الغابرين نصدق ؟ )) .
استثمار آلام الأخرين ليس جديدًا , الضحية تموت مرتين , مرة بالرصاص أو العجز أو الخوف أو الحسرة أو الجوع أو القهر , ومرة أخرى بسبب المتاجرة بدمها , هذا هو التاريخ , ساخرومسخرة مرة , ومأساة مرة أخرى , يسخر من ضحاياه الضعفاء مرة , ويمنح العقلانية الكاذبة للأخر مرة أخرى , وسنبقى ندور حول أنفسنا بعبثيه مؤلمة لا أمل في الخروج منها , فلم يُصنع ذاك التاريخ الذي تتطابق فيها , المأساة والسخرية , ويحولهما إلى وحدة واحدة , تمنح الطاقة للأخرين , المؤلم في مجتمعاتنا أن التأريخ يقودنا , وهو حمّال أوجه ورؤى وتصورات وأضاليل , تنطلي على الناس , ويتخذونها صراطا لتمرير الويلات والإستثمار في التداعيات , وبسبب السقوط في حبائل التأريخ المفتعل والمصمم على مقاسات الرغبات والنفوس الأمّارة بالسوء , تعيش الأجيال في مثرمة الحياة , وتتحول أيامها إلى مآسي ونكبات.
معظم رجال الدين (( السنة والشيعة )) على حد سواء لا يريدون لنا أن ننظر من خلال ما نراها في بطون أمهات كتب التاريخ , ولكن من خلال ما يرونه ويصورونه لنا , (( قطع رأس الحسين وأودع عند عبيد الله بن زياد , وقطع رأس عبيد الله وأودع عند المختار الثقفي , وقطع رأس الثقفي وأودع عند مصعب بن زبير, وقطع رأس مصعب وأودع عند عبد الملك بن مروان , وما زالت الرؤوس تقطع وترمى على الطرقات والقتلة مجهولون, والتاريخ الهمجي يكرر حماقاته ونحن ضحاياه المكررون )) , يذكر ان ناصر الدين شاه ( 1831 ـ 1896م) لما زار ضريح الحسين عليه السلام قام بنزع تاجه امام الضريح احتراما , فانبرى خطيب ما قائلا : (( ان الحسين في اشد حالاته يوم عاشوراء نادى هل من ناصر ينصرني ؟ ثم قال اتى ناصرك وهو واقف في حضرتك لينصرك )) , فضج الناس بالبكاء , طبعا عبارة هل من ناصر ينصرني فيها بعض الشكوك انه عليه السلام لم يقلها .
كتب التأريخ يختلط فيها الغث والسمين , والحابل بالنابل , والكذب والصدق , والإختلاق والحقيقة , ومعظمها تعبيرات عن عن آراء الكتاب , وفقا لمدى إقترابهم وبعدهم عن الكرسي المتحكم بمصير البلاد والعباد , فلا توجد مدونات تأريخية موضوعية , وخالية من عسل السلطة وضرورة التكسب بالمكتوب , فما خطته الأقلام كان من أجل الإرتزاق , وهذه مهنة سائدة وتدر مالا على أصحابها , فكانوا يهدون كتبهم للذين يتوقعون منهم عطاءُ مجزيا , ولابد من القول أن الجاحظ أهدى كتاب الحيوان لوزير المتوكل عبد الملك الزيات , وباقي كتبه لغيره , ونال على ذلك مالا وفيرا , وعندما نقرأ للمؤرخين المعروفين كالطبري , اليعقوبي , المسعودي , البلاذري وإبن كثير , وغيرهم , نتحير أمام ما دونوه عن حدث واحد , وهم ما شاهدوه أو عاشوه , إنهم نقلوا عن فلان وفلان وبعد قرون , وهم في العصر العباسي , ويكتبون عن أحداث حصلت قبل أكثر من قرن , فتجد قصصا متضاربة لا يقبلها العقل المعاصر , لكنها ترسخت بالتكرار , على أنها الصدق بعينه , فلا بد من القراءة المتعقلة للتأريخ , وعدم فصل ما مكتوب عن زمانه ومكانه , ولا يجوز القول بأن المدون مقدس , فهو من نضح عقول عصره وظروفه , وليس مخلدا أو مطلقا , كما يجري العمل على إيهام وخداع الأجيال , والشعوب المقهورة تسوء أخلاقها .
الكتب كثيرة بمجلداتها ومدوناتها وموسوعاتها , وقلة منها مكتوبة في زمن الحدث , ومعظمها وضعت على الورق بعد عقود أو قرون , وهي منقولة عن أقوال تداولتها الأجيال , وعندما نتأملها بمنظار زمانها ومكانها , وما في مجتمعات غيرها , تتبين عوراتها , فالسابقون ليسوا أذكى من اللاحقين , وذلك يعني أن رؤية ما مضى بعيون العصر ستكشف ما لا يخطر على بال من الهفوات والعبارات المنافية لطبيعة ألأشياء , وكأنها أشبه بالتهاويل المتخيلة لإخراج الشخص المعني من بشريته , وكلما ازدادت المسافة الزمنية , اكتسب الهدف توصيفات لا يعرفها , وسيبقى التأريخ يؤرقنا ويستنزف وقتنا , ويبدد تطلعاتنا , فنتناسى الحاضر والمستقبل , ونمعن بالغطس في الماضيات الغابرات القاهرات , ونستحضر منها السيئات , ونتجاهل المعطيات الإيجابية العلياء , فهل أن ما تحت الثرى يتسيّد على ما فوقه ؟ ذلك ماتمناه الطالباني , و (( الحياة بلا فائدة موت مسبق )) .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟