صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 12:26
المحور:
قضايا ثقافية
يقول نيل_ديجراس_تايسون : (( أن الناس الذين عاشوا هنا قبل 5000 سنة مضت قاموا هم بتقسيم الوقت إلى وحدات أصغر من الساعات والدقائق , يسمى هذا المكان أوروك , ونسميه العراق الآن , إنه جزء من بلاد ما بين النهرين , وهي الأرض بين نهري دجلة والفرات حيث ابتكر التمدن هنا , وأحرزت واحدة من أعظم إنجازات الإنسانية في معركته المستمرة ضد الزمن , هذا هو المكان الذي تعلمنا فيه الكتابة , ولم يسكتنا الموت بعد ذلك , أعطتنا الكتابة القوة للتواصل عبر الألفية والتحدث في رؤوس الأحياء , وقد كانت أوروك هي المكان نفسه حيث كُتبت القصة الملحمية ( رحلة البطل الأول) , قبل باتمان , قبل لوك رجل السماء , قبل أوديسيوس وقبلهم جميعًا)) .
صدر كتاب (( أنبياء سومريون )) للدكتور خزعل الماجدي , وقد شرح فيه كيف تحوّل عشرة ملوكٍ سومريين إلى عشرةٍ أنبياءٍ توراتيين , ويعتبر أوّل دراسة علمية تنشغل بعشرة من الآباء المؤسسين للبشرية , والذين درجنا على اعتبارهم , كلّهم أو بعضهم , من الأنبياء , وهم : آدم , شيث , إنوش , قينان , مهلالئيل , يارد , أخنوخ (إدريس) , متوشالح , لامك , ونوح , وتتوصل هذه الدراسة إلى أنهم عشرة ملوكٍ سومريين حكموا مدناً رافدينية معروفة , لكن التوراة حوّلتهم من ملوكٍ إلى آباء / أنبياء بدأ بهم ظهور الإنسان على وجه الأرض , ولطالما أثار السؤال عن آدم وشخصيته الحقيقية , ثم السؤال عن من رافقه (حواء وأبناؤهما) , ثم السؤال عن من تلاه من الأنبياء المعروفين (إدريس ونوح) وظهرت أسئلة كثيرة وأثارت جدلاً واسعاً سواء في الأوساط الشعبية من الناس أو في الأوساط العلمية أو الدينية.
لم تكن القصص الدينية وحدها هي التي أعيد تدويرها , بل حتى الحكم والأمثال القديمة , وقد كتب الدكتور يوسف زيدان : أن الأصل في شخصيتي يشوع بن سيراخ , لقمان الحكيم , هو تلك القطعة الأدبية الفريدة التى تزدان بها الآداب الآرامية المبكرة على هيئة قصة مليئة بالعبر لحكيم آرامى عاش فى الزمن السحيق , هو : أحيقار الحكيم , وزير الملك سنحريب , وقد تم أكتشاف أقدم نص آرامی (سرياني) لقصة أحيقارفي القرن الخامس قبل الميلاد , وقد عثر عليه فى أسوان بجنوب مصر, وهو يحتوى على قصة أحيقار كاملة , وملخصها أن رجلًا فاضلا اسمه أحيقار, كان وزيرا لملك اسمه سنحاريب , وكان هذا الوزير يتولى تربية ولد يتيم , هو في واقع الأمر ابن أخيه المتوفى , ولما كبر الغلام , أراد أحيقار أن يستعين به في أعمال الوزارة , غير أن الشاب طمع فى الوزارة , وسعى بالمكيدة بين عمه والملك , فانقلب الملك على عمه زمنا حتى اكتشف ما فعله الشاب , فأعاد أحيقار إلى الوزارة , فما كان من أحيقار إلا أن عفا عن ابن أخيه , وأخذ يسدى إليه النصح (في النصف الثاني من النص) ويعظه بمواعظ , كتلك التي نجدها في القرآن الكريم , منها مثلا قوله : لا ترفع صوتك ابتغاء بناء بيت , فلو كان البيت يبنى بالصوت المرتفع , لكان بيت الحمار من طابقين , وهو ما يذكرنا بالآية القرآنية ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) , وهناك كثير من النصائح المشتركة في القصتين , مثل بر الوالدين وعدم التباهي , وغير ذلك الكثير من وجوه التطابق في النصائح , التي تعد في قصة (أحيقار) آية من آيات البلاغة الآرامية , مثلما تعد القصة القرآنية للحكيم (لقمان) آية من آيات البلاغة العربية.
العراق القديم , أو بلاد ما بين النهرين , كان مهدًا للعديد من الحضارات العظيمة مثل السومرية والأكادية والبابلية والآشورية , هذه الحضارات لم تكن فقط مراكز للقوة العسكرية والسياسية , بل كانت أيضًا مراكز للابتكار الفكري والديني والعلمي , وتعتبر الأديان الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية والإسلام) الوريث المباشر للعديد من المفاهيم والقصص التي نشأت في بلاد ما بين النهرين , يمكن تفسير هذا على أنه (( استزمان )) ديني , حيث تم أخذ وإعادة صياغة القصص القديمة وإعادة تقديمها ضمن سياق ديني جديد.
تجدر الإشارة الى ان قصة الطوفان تعتبر من أشهر الأمثلة , فقصة نبي الله نوح والطوفان في الكتب السماوية لها جذور عميقة في أساطير بلاد ما بين النهرين , وبالتحديد في ملحمة جلجامش السومرية التي تتحدث عن أوتنابيشتيم الذي بنى سفينة لإنقاذ نفسه وعائلته من طوفان عظيم , كما ان جنة عدن , التي يوصف موقعها في سفر التكوين بأنه بين أربعة أنهار, اثنان منها هما دجلة والفرات , مما يضع الموقع في قلب بلاد ما بين النهرين , هذه الفكرة تعكس التقدير القديم لخصوبة هذه المنطقة وأهميتها كمصدر للحياة.
لو تفحصنا شريعة حمورابي , وأجرينا مقارنة الوصايا العشر في التوراة بقوانين هذه الشريعة البابلية (1754 ق.م) , والتي تعد من أقدم القوانين المكتوبة في التاريخ , على الرغم من وجود اختلافات , فإن التشابه في بعض المفاهيم القانونية يشير إلى تأثير حضاري متبادل , كما ان شخصية النبي إبراهيم , مؤسس الأديان الإبراهيمية الثلاثة , وفقًا للرواية الدينية , بأنه ولد في أور الكلدانيين في جنوب العراق , مما يربط بشكل مباشر بداية هذه الأديان ببلاد ما بين النهرين .
كانت اللغة الآرامية من اللغات السامية التي انتشرت بشكل واسع في الشرق الأوسط، وكانت لغة رسمية ولغة مشتركة (Lingua Franca) في الإمبراطورية الآشورية والبابليّة الحديثة , وتعتبر اللغة الآرامية أمًا للعديد من اللغات السامية اللاحقة , مثل اللغة العبرية التي يتحدث بها اليهود والتي تنتمي إلى نفس عائلة اللغات السامية الشمالية الغربية التي تنتمي إليها الآرامية , وقد تأثرت اللغة العبرية بالآرامية بشكل كبير, خاصة في فترة السبي البابلي , حيث أصبحت الآرامية هي اللغة اليومية لليهود في بابل , وظهر هذا التأثير في نصوصهم الدينية مثل التلمود وأجزاء من التوراة .
لو نظرنا الى لغة قريش (العربية) , فأن اللغة العربية الفصحى تنتمي أيضًا إلى عائلة اللغات السامية , وعلى الرغم من أن أصلها يختلف قليلًا عن الآرامية , إلا أن هناك تقاربًا لغويًا واشتقاقًا مشتركًا للعديد من الكلمات والمفاهيم , وتشير بعض الدراسات اللغوية إلى أن الخط العربي تطور من الخط النبطي , الذي بدوره تطور من الخط الآرامي , وهذا ما يوضح أن هناك ترابطًا لغويًا عميقًا بين هذه اللغات السامية , الفكرة هنا هي أن (( استزمان )) اللغة (عملية أخذ التراث القديم وإعادة تقديمه ضمن سياق زمني جديد, مما يؤدي إلى تجاهل أصوله الحقيقية) قد تم عبر أخذ لغة قديمة (الآرامية) وتكييفها وتطويرها لتصبح لغة جديدة (العبرية والعربية) , ولكن في كثير من الأحيان يتم إغفال الأصل المشترك أو إهماله , مما يخلق سردية لغوية منفصلة عن جذورها.
هذه الأمثلة ((القصص, القوانين, اللغات )) ,تُظهر كيف أن التراث الديني للعراق القديم تم استيعابه و(( أقتباسه )) وإعادة تأطيره ليصبح جزءًا من (( زمن )) آخر , يخدم سرديات دينية مختلفة , هذا التبني لا يلغي أهمية هذه القصص في سياقها الجديد , ولكنه يبرز كيف أن أصلها قد تم تجاهله أو نسبه لثقافات أخرى , وباختصار, يمكن رؤية العلاقة بين مفهوم (( الاستزمان )) وتاريخ العراق القديم في كيفية استيعاب وإعادة صياغة تراثه الديني واللغوي في أديان ولغات أخرى دون الاعتراف الكافي بالأصول , هذا الاستيعاب لا يشكل سرقة مادية فقط , بل يمثل هيمنة على (( زمن )) هذه الحضارة العظيمة وتراثها , مما يجعلها تبدو كأنها مجرد مصدر ثانوي بدلاً من كونها الأصل.
فهل يمكننا أن نعيد للعراق القديم زمنه ومكانته الحقيقية في سرديتنا الإنسانية؟
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟